بين الأوراق المتناثرة والواقع المرير : #محاكم_الأسرة في #لبنان إلى أين؟
بقلم كوثر شيا – خاص بوابة بيروت
@kchaya

كاتبة وناشطة سياسية
بينما تتسابق دول الجوار نحو الرقمنة والإصلاح القضائي، لا يزال لبنان غارقًا في ركام المعاملات الورقية، وفي غيبوبةٍ قانونيةٍ تُعيدنا إلى زمنٍ مضى. في ورشة العمل الإقليمية التي نظّمتها المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم “LFPCP” بالتعاون مع المعهد العالي لإدارة الأعمال “ESA” والمعهد النرويجي لحقوق الإنسان “جامعة أوسلو”، اجتمع رؤساء محاكم الأسرة من لبنان والأردن وفلسطين تحت عنوان: “أوضاع محاكم الأسرة في العالم العربي: التحديات وسبل التطوير.”
واقعٌ مؤلم ومفارقة صارخة
من داخل قاعة “ESA” في كليمنصو، كان المشهد يعبّر عن مفارقةٍ مؤلمة. فبينما يتحدّث ممثلو فلسطين والأردن “رغم الاحتلال والحرب” عن التحوّل الرقمي الشامل في محاكمهم، لا تزال محاكمنا اللبنانية غارقة في الملفات المكدّسة، والأختام القديمة، والبيروقراطية التي تخنق العدالة.
أكد النائب ميشال موسى أن الأسرة هي النواة الأولى للمجتمع، لكن “أي نواة يمكن أن تنمو في أرضٍ يابسة من العدالة؟” أما البطريرك يوحنا العاشر يازجي فدعا إلى “ترسيخ مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة” كأساس لتطوير محاكم الأسرة، في حين نبّه الشيخ سامي أبي المنى إلى تآكل دور العائلة بسبب غياب الحوار والوعي، وطغيان المظاهر على القيم.
فلسطين والأردن… خطوات نحو المستقبل
قدّم ممثلو فلسطين والأردن تجربةً لافتة في الانتقال نحو نظامٍ رقميٍ متكامل، بدعمٍ نرويجي، حيث أصبحت القضايا تُدار إلكترونيًا، والوثائق محفوظة في قواعد بيانات مؤمّنة، بينما تُدار الجلسات عن بُعد، ما اختصر الزمن وقلّل الأخطاء. تجربةٌ تثبت أن الإرادة يمكن أن تتغلّب على الحرب، وأن التطوّر لا يحتاج إلى ثروة بقدر ما يحتاج إلى وعيٍ وإدارة.
العدالة ليست نصوصًا بل ثقافة
من جانبه، أشار الأستاذ هادي الأسعد إلى أن العدالة الأسرية ليست مجرد تطبيقٍ للنصوص، بل هي “سلوك، وثقافة، وممارسة مؤسسية تقوم على الرحمة والإنصاف والتوازن بين الحقوق والواجبات.” كذلك تحدّث الشيخ علي الخطيب عن عمق الأزمة الثقافية بقوله: “العائلة في ثقافتنا ليست مجرد إطار اجتماعي، بل هي البيئة التي يُنشأ فيها الضمير.”
من الورشة إلى الوعي المجتمعي
استمر اللقاء على مدى يومين تخللته جلسات مغلقة ناقشت قضايا الحضانة، والمشاهدة، وسن القاصرين، والمصلحة الفضلى للطفل، إضافةً إلى العلاقة بين القاضي والمحامي، ودور منظمات المجتمع المدني في دعم العدالة الأسرية.
وقد أشاد الحاضرون بالتعاون اللبناني النرويجي، وبجهود منسّق الورشة الأستاذ ربيع قيس الذي أدار الحوار بروحٍ منفتحة وعقلٍ قانونيٍّ يوازن بين النص والإنسان.
الأستاذ ربيع قيس، صاحب الرؤية الهادئة والحضور الإنساني العميق، أدار ورشة العمل بروحٍ منفتحة تجمع بين الدقّة القانونية والحسّ الإنساني.
بصفته مدير الجلسات والمضيف، أظهر قدرة استثنائية على خلق مساحة حوار راقية بين المرجعيات الدينية والقانونية، فكان صوته صوت التوازن، وعقله جسرًا بين الفكر والعدالة.
بابتسامته الهادئة وإدارته الحكيمة، جعل من اللقاء أكثر من ندوة… جعله منبرًا للضمير الإنساني الحيّ
كلمة الختام، عدالة القلب قبل القانون
في ختام الورشة، بدا السؤال الأكبر يطرق الضمائر، كيف يمكننا أن نبني مجتمعًا مدنيًا حرًّا فيما لا تزال محاكمنا أسيرة التقاليد والمراسلات الورقية؟
إنّ إصلاح محاكم الأسرة ليس تفصيلًا إداريًا، بل هو فعلُ نهضةٍ إنسانية، به نؤسّس لجيلٍ جديدٍ، ينتمي إلى عائلةٍ تُربّي على الاحترام والمسؤولية، لا على الخوف والتبعية.
فالعدالة الحقيقية تبدأ من البيت، من حضن أمٍ لا تُنتزع حضانتها، ومن طفلٍ يُربّى على الكرامة لا على الطاعة العمياء.
وحين نفهم أنّ العائلة هي مدرسة الضمير، يمكننا أن نزرع في هذا الوطن بذور مجتمعٍ راقٍ، يحكمه الوعي لا المذهب، ويحميه الضمير لا الختم الرسمي.
لكن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أن الجيل الجديد لم يعد يعيش في قوالب الطوائف والمذاهب، بل في رحاب الإنسان.
هو جيلٌ يرى في الآخر مرآةً لذاته، لا خصمًا له. جيلٌ تعلم من الألم أن الإنسانية هي الرابط الأقوى، وأنّ الكرامة هي اللغة المشتركة بين جميع البشر. جيلٌ خرج من رماد الأزمات لكنه يحمل في يده شعلة الوعي، يريد أن يبني وطنًا لا يُقسّم أبناءه بين “نحن” و”هم”، بل يجمعهم على كلمة واحدة: الإنسان أولًا.
لقد آن الأوان أن تدرك الأديان والتشريعات أنّها خُلقت لخدمة الإنسان لا لتقييده، وأنّ قيم العدالة والرحمة ليست شعاراتٍ تُقال بل ممارساتٍ تُعاش. في لبنان، لم يعد الوقت يسمح بالمجاملات أو التبريرات. نحن بحاجة إلى حوكمةٍ تُعيد الثقة بين المواطن والدولة، بين الدين والضمير، بين القانون والقلب.
فلنطرح على أنفسنا سؤال الضمير قبل أن نحاكم غيرنا، ماذا قدّمت طوائفنا لمجتمعنا؟ هل ربّت أبناءها على محبة الوطن أم على الخوف من الآخر؟ هل حافظت على جوهر رسالتها “المحبة، العدالة، الكرامة” أم استبدلتها بالشكل والسلطة؟
فلنترك هذا السؤال مفتوحًا في وجدان كلّ منّا، لأنّ الجواب لا يُكتب في الدساتير بل في السلوك اليومي،
ولا يُنطق من المنابر بل يُترجم بالرحمة والإنصاف.
ولنستيقظ جميعًا على حقيقةٍ كبرى، لن ينهض لبنان إلا حين نرتقي بوعينا قبل قوانيننا، وحين نصغي إلى إنساننا الداخلي قبل زعيمنا الخارجي، حين نؤمن أن المواطنة هي الدين الأعظم، والكرامة هي الإيمان الأسمى، والإنسان هو المعبد الذي يجمعنا جميعًا.