لم يكن أكثر المتفائلين ليتصوّر قبل عام أن يرى من كان يُعرف بـ “أبو محمد الجولاني” ضيفًا عند الرئيس الأميركي في واشنطن. لكن بعد أقلّ من عام على سقوط نظام الأسد، حلّ الرئيس السوري أحمد الشرع ضيفًا على الرئيس دونالد ترامب أمس، كأوّل رئيس سوري يزور البيت الأبيض منذ استقلال سوريا عن فرنسا عام 1946. دشن لقاء ترامب – الشرع، الذي يعتبر تاريخيًا بكلّ المقاييس، حقبة جديدة لسوريا أضحت تتجه غربًا. استطاع “الجهادي العالمي” السابق، استغلال اللحظة الإقليمية المؤاتية في أواخر العام 2024 لإطاحة الأسد، والانتقال في غضون أيام من مخابئ إدلب إلى قصر الشعب، حتى حطّ رحاله أخيرًا في المكتب البيضوي.
وبعد عقود من تموضع سوريا في تحالفات مختلفة يجمعها العداء لأميركا، انطلاقًا من الهلوسات الأيديولوجية التي كانت تنخر عقلية “حزب البعث”، الذي جعل سوريا عاملًا مزعزعًا للاستقرار في المنطقة من خلال تصديره الإرهاب والمخدّرات برعاية حليفته الإقليمية إيران، أتت زيارة الشرع لواشنطن، لتشكل طلاقًا مع مسار تاريخي طويل من العلاقات الخارجية الهدّامة، لبناء علاقات استراتيجية جديدة تنقل سوريا من حضن “محور الشرّ” إلى رحاب المجتمع الدولي الواسع.
واجتمع الشرع مع ترامب لأكثر من ساعة بحضور وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ونظيره الأميركي ماركو روبيو، ونائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس، والمبعوث الأميركي إلى سوريا توم برّاك، وقائد هيئة الأركان المشتركة الأميركي دان كين، ووزير الحرب الأميركي بيت هيغسيث. وإذ أكد ترامب في وقت لاحق أنه “على وفاق مع الرئيس السوري”، أوضح أنه “يقول البعض إن ماضيه كان مضطربًا، كلّنا مررنا بماض مضطرب”، مشدّدًا على أنه “نريد أن تنجح سوريا وبقية الشرق الأوسط، وأنا واثق من أن الرئيس السوري يستطيع تحقيق ذلك”. وكشف أنه “نعمل مع إسرائيل على التفاهم مع سوريا وتحسين العلاقات معها”، مشيرًا إلى أنه “ستكون هناك إعلانات في شأن سوريا قريبًا”.
في السياق، كشف وزير الإعلام السوري حمزة المصطفى أن دمشق وقعت أخيرًا إعلان تعاون سياسي مع “التحالف الدولي” لهزيمة “داعش”، مشيرًا إلى أنها أكدت بذلك دورها كشريك في مكافحة الإرهاب ودعم الاستقرار الإقليمي. لكنه أوضح أن الاتفاق سياسي ولم يتضمّن حتى الآن أي مكونات عسكرية. كما أكد الشيباني أن اجتماع ترامب والشرع كان “بناء” وجرى خلاله بحث الملف السوري بكافة جوانبه، مشيرًا إلى أنه “تم التأكيد خلال اللقاء على دعم وحدة سوريا وإعادة إعمارها وإزالة العقبات أمام نهضتها”، في حين ذكرت الخارجية السورية أن ترامب عبّر عن إعجابه بالقيادة السورية الجديدة وبالشعب السوري، مشيدًا بجهود سوريا في قيادة المرحلة السابقة بنجاح، وما تحقق من إنجازات على صعيد التحرير وإعادة الاستقرار إلى ربوع البلاد.
كما أكد استعداد الولايات المتحدة لتقديم الدعم اللازم الذي تحتاجه القيادة السورية لإنجاح مسيرة البناء والتنمية في المرحلة المقبلة، وفق الخارجية التي أوضحت أنه بتوجيه من ترامب، عُقد اجتماع عمل موسّع ضمّ الشيباني وروبيو ووزير الخارجية التركي هاكان فيدان لمتابعة ما اتفق عليه بين الرئيسَين ووضع آليات تنفيذ واضحة له. وتحدّثت الخارجية السورية عن أن الجانبين اتفقا على المضي في تنفيذ اتفاق 10 آذار، بما يشمل دمج “قسد” ضمن صفوف الجيش السوري، مشيرة إلى أن الجانب الأميركي أكد دعمه للتوصل إلى اتفاق أمني مع إسرائيل يهدف إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي. كما كشفت أن ترامب عبّر عن دعمه لجهود النهوض والاستثمار في سوريا، مؤكدًا التزام واشنطن بالمضي في رفع العقوبات المفروضة بموجب “قانون قيصر”، بما يتيح فرص التنمية وجذب الاستثمارات.
ويأتي ذلك بعدما دخل الشرع البيت الأبيض من جهته الجنوبية بعيدًا من عدسات الكاميرات ومن دون خروج ترامب ومصافحته على الباب قبل بدء المحادثات، الأمر الذي يُعتبر مختلفًا عن الأعراف المعتادة في البيت الأبيض، إذ يدخل الضيوف عادة من البوابة الرئيسية الشمالية للجناح الغربي، حيث المكتب البيضوي، إنما لا يُعدّ الأمر سابقة. وأفادت صحيفة “وول ستريت جورنال” نقلًا عن مسؤولين أميركيين بأن ترامب والشرع ناقشا سُبل إعادة فتح السفارتين في عاصمتي البلدين، موضحة أنه قد يستغرق الأمر عدة أشهر قبل أن تبدأ البعثات عملها بشكل فعلي. وذكرت أن الشروط الدقيقة لدور سوريا الرسمي في “التحالف الدولي” لا تزال قيد النقاش.
وفي ما يتعلّق بمساعي دمشق لإلغاء “قانون قيصر”، فقد أعلنت الخزانة الأميركية تزامنًا مع محادثات ترامب والشرع، تعليق العقوبات بموجب “قيصر” على سوريا جزئيًا لمدة 180 يومًا، مشيرة إلى أن هذه الخطوة تحل محل إعفاء سابق صدر في 23 أيار الماضي.
وذكرت أن تعليق العقوبات يستثني بعض المعاملات التي تشمل روسيا وإيران، كما لا تزال العقوبات مفروضة على بشار الأسد ومعاونيه، ومنتهكي حقوق الإنسان، ومهرّبي مخدر الكبتاغون، وغيرهم من الجهات الإقليمية المزعزعة للاستقرار، موضحة أن واشنطن تواصل مراجعة تصنيف سوريا كدولة راعية للإرهاب، وهي ملتزمة بسوريا مستقرّة وموحّدة، فيما كان مسؤول رفيع في الإدارة الأميركية قد أفاد لشبكة “فوكس نيوز” بأن “الإدارة أصدرت قرارًا بتعليق “قانون قيصر” لمدة 180 يومًا، وتحض الكونغرس على إلغاء القانون بشكل دائم من أجل فتح آفاق النمو الاقتصادي”.
في السياق، اجتمع الشرع ليل الأحد – الإثنين مع رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأميركي النائب الجمهوري براين ماست، الذي يُعتبر عائقًا رئيسيًا أمام إلغاء “قانون قيصر”. وبينما أفاد صحافيون سوريون بأن اللقاء كان إيجابيًا وجعل موقف ماست أكثر ليونة، أكد ماست أمس أنه أجرى مع الشرع “حوارًا طويلًا وجادًا حول كيفية بناء مستقبل للشعب السوري خالٍ من الحرب وتنظيم “داعش” والتطرّف”.
وذكر أنه “نحن جنديان سابقان وعدوّان سابقان، وسألته مباشرة: لماذا لم نعد أعداءً؟ فكان ردّه أنه يرغب في التحرّر من الماضي، والسعي النبيل من أجل شعبه وبلاده، وأن يكون حليفًا كبيرًا لأميركا. بالتوازي، أكدت جاسمن نعمو، التي سهّلت اللقاء بين الشرع وماست وكانت حاضرة برفقة زوجها الاقتصادي السوري طارق نعمو، أن الاجتماع “يُعد خطوة مهمة نحو تجديد التعاون وتعزيز الأمن والسلام في سوريا والمنطقة”، مشيرة إلى أن “هذا الاجتماع يمثل ثمرة العمل الهادئ، الذي جمع بين وجهات نظر مختلفة ومهّد الطريق لمستقبل أكثر استقرارًا”.
وقبل ساعات من لقاء ترامب والشرع، أفاد مسؤول أمني سوري ومسؤول كبير في الشرق الأوسط لوكالة “رويترز” بأن سوريا أحبطت مؤامرتين منفصلتين لتنظيم “الدولة الإسلامية” لاغتيال الشرع خلال الأشهر القليلة الماضية، موضحًا أن إحدى المؤامرتين كانت تتمحور حول استهداف الشرع خلال حضوره فعالية رسمية أعلنت مسبقًا. وإذ أحجمت وزارة الإعلام السورية عن التعليق على مؤامرات بعينها، معلّلة ذلك بأسباب أمنية، أشارت إلى أن “الدولة الإسلامية” لا يزال يشكل تهديدًا أمنيًا حقيقيًا لسوريا والمنطقة، مؤكدة أنه “خلال الأشهر الـ 10 الماضية، أحبطت وزارة الداخلية وجهاز الاستخبارات العامة هجمات عدة مرتبطة بـ “داعش” استهدفت مواقع مختلفة، بما في ذلك مواقع دينية”.
وبعدما أطلقت الداخلية السورية مطلع هذا الأسبوع حملة تستهدف خلايا “داعش” في أنحاء البلاد، أسفرت عن القبض على أكثر من 70 شخصًا، أكد المسؤول الأمني السوري لـ “رويترز” أن الحملة جاءت بناء على معلومات استخباراتية أفادت بتخطيط التنظيم لشن عمليات ضدّ الحكومة وضدّ أقليات سورية، كما كان هدف الحملة أيضًا توجيه رسالة مفادها أن الاستخبارات السورية اخترقت عمق “داعش” وأن الانضمام إلى “التحالف الدولي” سيضيف تعزيزًا كبيرًا للعمليات العالمية ضدّ الإرهابيين.
ووفق مسؤولين سوريين تحدّثوا مع “رويترز”، تنسّق حكومة الشرع بالفعل منذ أشهر مع الجيش الأميركي في الحرب على التنظيم، لكن من المتوقع أن يعزز الانضمام الرسمي إلى “التحالف الدولي” هذا التعاون بشكل كبير. ويُعتبر الانضمام أيضًا خطوة مهمّة من الشرع نحو بناء الثقة لإقناع أعضاء الكونغرس الأميركي برفع العقوبات المتبقية على سوريا قبل نهاية العام الحالي.