ميشال عون و”حزب الله” : وجهان لعقلية واحدة على مسرح الوهم
بقلم الدكتور سايد حرقص
في لبنان، يُعاد تدوير التاريخ، بوجوه جديدة وأقنعة جديدة وأزياء جديدة. فيعود الممثلون إلى الخشبة نفسها ليؤدوا الدور ذاته. كل عقدٍ من الزمن، تُعرض المسرحية القديمة بعنوانٍ مختلف، لكن الحبكة تبقى واحدة: حكاية الخلاص المستحيل عبر الانتحار، وحلم البطولة المصنوعة من رماد الخراب.
من ميشال عون إلى حزب الله، يمتدّ الخيط ذاته، خيط الغرور المقدّس الشيخ عفيف الصندقلي واليقين المطلق، خيط الإيمان بأن الوطن لا يُبنى إلا إذا صار مرآةً للقائد أو للحزب، وأن كلّ من لا يبايع «الوهم» هو عدوٌّ يجب إلغاؤه وكما حاول العماد ميشال عون الغاء المقاومة اللبنانية التي حافظت على المناطق الحرة ألغى حزب الله المقاومة الوطنية التي أسست عقيدة مقاومة العدو.
عام 1989، حين أنهت اتفاقية الطائف حرب لبنان الطويلة، ردّ العماد ميشال عون بـ«لا»، وصاح حزب الله بـ«لا» موازية. كتبت كارول داغر في كتابها «جنرال ورهان»: “في السابع والعشرين من تموز من العام 1990 أبلغ السفير البابوي بابلو بوانتي إلى العماد ميشال عون رسالة من البابا يوحنا بولس الثاني بضرورة الاعتراف بالشرعية والانضمام إليها، لكن عون رفض بشدة وسأل السفير البابوي: “ممن هذه الرسالة؟ فأجابه: إنها من قداسة البابا، فرد عليه عون: “قل للبابا إنه رئيس الكاثوليك في العالم أما في لبنان وفي الشرق فأنا رئيس المسيحيين”..،. أمّا حزب الله، فبلسان أمينه العام الأوّل الشيخ صبحي الطفيلي، رأى في الطائف «فتنة» لا تُطفأ إلا بإلغائه.
عام 2003، وقف العماد ميشال عون في الكونغرس الأميركي يشكو وصاية سوريا وسلاح الحزب، كما يقف الحزب اليوم في منابر الممانعة يشكو «وصاية الغرب» و«تخاذل الدولة». كلاهما قاتل الاحتلالات ليقيم وصايته وهيمنته، وحارب الخارج ليُخضع الداخل بالقوة والإرهاب. الفرق في الشكل فقط، لا في الجوهر: عون طلب الخلاص من واشنطن، والحزب يطلبه من طهران، وفي الحالتين كان لبنان هو الضحية.
عاد الجنرال من منفاه الباريسي عام 2005 محمولاً على موجة الغضب الشعبي، لكن طموحه كان أكبر من مبادئه. وفي شباط 2006، صافح حزب الله في لحظة، التقى الطموح بالهيمنة، والرغبة بالرئاسة بحاجة السلاح غير الشرعي للغطاء المسيحي. من تلك المصافحة وُلدت «جمهورية الوهم»، حيث صار السلاح غير الشرعي هو الشرعية، وأدرك الفريقان أنهما في الجوهر الفكري واحد، لدرجة قال أحد الظرفاء: “لو ما تشابهَوا ما توافقَوا”. وكما اخترعَ الجنرال ميشال عون شخصيةَ الشيخ عفيف الصندقلي للترويج لأفكاره في الشارع الإسلامي،جنّد حزب الله عشرات الرهبان والراهبات والكهنة ورجال الدين السنة والشيعة والدروز لتلميع صورته.
حرب تموز 2006 كانت مرآةً لحرب 1989. في الأولى دمّر ميشال عون القصر الجمهوري باسم «الشرف الوطني»، وفي الثانية دمّر الحزب الجنوب باسم «المقاومة». المنطق واحد: المجد في الخراب، والنصر يُعلن من فوق الركام. صفّق عون للنصر الإلهي كما صفّق من قبل لحريق الدورة، لأن كليهما ك “نيرون” يريا في الدمار مشهداً جميلاً من مشاهد البطولة.
عام 2016، أنتخب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية بعد موافقته على اتفاق معراب. الرجل الذي حارب اتفاق الطائف وبنى مجده على وعدِ إلغاء الميليشيات وكسر رأس حافظ الأسد، عاد رئيسًا يُقسِم على تطبيق الطائف الذي صار دستورًا، مدعومًا من ميليشيا حزب الله وبركة بشار الأسد. وكما ضرب حزب الله عرض الحائط بإعلانه الالتزام بـ«إعلان بعبدا»، كذلك لم يلتزم ميشال عون ببنود اتفاق معراب.
مع توحّد الهتافين: «يا شعب لبنان العظيم» و«يا أشرف الناس»، تحوّلا إلى شعارين لعقلية واحدة تمجّد الذات وتزدري الدولة، وتهدف إلى إلغاء الآخر.
وكما رُوِّج زورًا أن صوت مناصري عون قديمًا يختزل كل اللبنانيين، كذلك صار صراخ جمهور الممانعة يُختزل به صوت لبنان.
منذ سنة وحتى اليوم يعيد حزب الله تمثيل التجربة نفسها: حرب «الإسناد» نسخة من حرب «التحرير» العونية، توهم القوة كما توهَّم الضفدع أنه ثور، كما جاء في إحدى قصص الكاتب الفرنسي “لافونتين”. الجنوب اليوم كما «المنطقة المحرّرة» بالأمس، يدفع ثمن الوهم ذاته: تهجير، عزلة، وانهيار يُغطّى بخطابٍ عن البطولة. الكلمات تغيّرت من وطنية إلى دينية، لكن الجوهر واحد: العدو دائماً هناك، والضحية دائماً هنا. والخوف أن يكرر نعيم قاسم مسرحية 13 تشرين 1990 ويترك ميليشياته والجنوب عرضة لاجتياح إسرائيلي ويهرب بـ«البيجاما» إلى السفارة الإيرانية.
تقاعد ميشال عون من المسرح السياسي، بعد أن انهار لبنان في عهده، لكن ظله بقي يسكن في وجدان حزب الله. الاثنان التقيا في الإيمان ذاته: أن الحقيقة لا تُبنى إلا على أنقاض وجثث الآخرين، وأن الخلاص لا يتحقق إلا بإلغاء الجميع.
وفي النهاية، يبقى لبنان هو البطل الصامت، يبدّل الوجوه ويكرّر المشهد ذاته: دماء جديدة على الخشبة نفسها، وجمهور يصفّق من باب العادة، فيما تستمر مسرحية “الوهم الكبير”.
حين يُطفأ الضوء قريباً على هذا المسرح المنهك بالهتافات والدم، سيكتشف اللبنانيون أن وطنهم لا يحتاج إلى بطل جديد، بل إلى دولةٍ عادلة، تخاف على أبنائها لا منهم. عندها فقط، يتحوّل المسرح إلى وطن، وتغيب الشعارات الفارغة ويصمت ضجيج القطيع، ليُسمع الصوت الحقيقي، صوت لبنان الذي لا يموت، صوت الوطن الذي كان ينتظر من شعبه المؤمن بنهائية كيانه أن يتحد ويُنصت إليه ليعبروا معاً إلى عالم الحقيقة… إلى سويسرا الشرق، بعيداً عن الأقنعة الغريبة التي حاولوا إلباسه إياها على مسرح الوهم.