بقلم عباس هدلا
مما هو مسلّم به أنه بعد إعلان دولة لبنان الكبير في أيلول 1920، دخل اللبنانيون الشيعة مرحلة جديدة في تاريخهم المديد في لبنان، فتحولوا من واقع الاضطهاد والإنكار في العصرين المملوكي والعثماني، إلى الاعتراف بهم كمجموعة لبنانية مؤسسة لدولة لبنان الكبير، فانخرطوا في الدولة الجديدة طائفة فتية تتطلع إلى المساواة والعدالة والمشاركة بعد قرون من الاظطهاد والتهجير والتخفي.
لم يكن للبنانيين الشيعة مشروع خاص في دولة لبنان الكبير ومن ثم الجمهورية اللبنانية بعد استقلال 1943، إنما شاركوا في التوجهات السياسية الموجودة في الساحة اللبنانية، وكان سقف المشاركة السياسية للبنانيين الشيعة، نهائية الكيان اللبناني والالتزام بالدولة والدستور اللبناني ورفع الحرمان عن المناطق الشيعية، ومع انتصار الثورة الإسلامية في ايران عام 1979 وبداية تصدير مشروعها إلى لبنان مطلع الثمانينات، بدأت تظهر في السلوك السياسي الشيعي وأدبياته أفكار ورؤى ومناهج تتعدى الكيان اللبناني، لتلتزم بمشروع يقوم على تأسّس الدولة الإسلامية العامة على الأراضي الإيرانية في ظلال المرشد الأعلى، الولي الفقيه، وظهور “أمة حزب الله” في لبنان كجزء وامتداد للأمة في إيران.
لقي هذا المشروع منذ البداية اعتراضًا داخل البيئة الشيعية، وصل إلى حد المواجهة العسكرية ولا سيما مع حركة المحرومين (أمل) أواخر الثمانينات، فمع توقيع اتفاق الطائف وانتهاء الحرب الأهلية اللبنانية وتوقيع اتفاق دمشق بين “أمل” و”حزب الله” برعاية سورية إيرانية، ودخول لبنان مرحلة السيطرة السورية، نما مشروع “الولاية” في لبنان وتطوّر وتوسّع وتمدد إلى أن اعتلى عام 2016 صفة مرشد الدولة اللبنانية، مع وصول حليفه العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية وحصول حلفائه على الأغلبية في مجلس النواب اللبناني، فتسيّد الساحة حتى بدأت الأمور تخرج عن الهيمنة مع اندلاع ثورة 17 تشرين الأول عام 2019، ومن ثم خسارة الأغلبية النيابية في 2022 وصولًا إلى دخول معركة الإسناد عام 2023 ووقف إطلاق النار في تشرين الثاني 2024 وانتخاب رئيس الجمهورية جوزاف عون وحكومة الرئيس نواف سلام، وقرار الحكومة في 5 أيلول ببدء عملية حصرية السلاح في جنوب لبنان.
مبادرات اللبنانيين الشيعة بمواجهة نهج “الولاية” من التحالف الرباعي إلى اتفاق الدوحة
رغم هيمنة هذا المشروع على الساحة الشيعية، إما تواطؤًا أو تخاذلًا أو تلزيمًا من قبل السلطة اللبنانية، ظلّت الأصوات المعترضة على هذا المشروع موجودة وشاركت في “لقاء البريستول” عبر عديد من الشخصيات أبرزها رئيس “المنبر الوطني” النائب السابق حبيب صادق في وجه “لقاء عين التينة”، وتمظهرت بشكل واضح بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري من خلال الانخراط في ثورة 14 آذار بمواجهة قوى 8 آذار الحليفة لـجماعة “الولاية”.
في 21 نيسان 2005 أُعلن في الثانوية العاملية في رأس النبع برعاية العلامة السيد محمد حسن الأمين، وبمشاركة ثلاثمائة شخصية شيعية متنوّعة من سياسيين وكتّاب وأكاديميين وإعلاميين وناشطين ومن فاعليات اجتماعية متنوعة، تقدّمهم آنذاك النائبان باسم السبع ومحمود عواد، “اللقاء الشيعي اللبناني” الذي ما لبث أن تعرض للخذلان بفعل التحالف الرباعي بين “حزب الله” و”حركة أمل” وتيار “المستقبل” والحزب “التقدمي الاشتراكي”، وجوبه بالتهميش ومحاولات إنهائه.
وفي 16 حزيران 2007، تأسّس “لقاء الخيار اللبناني” وتمّ إطلاقه في منطقة بعلبك بتاريخ 7 أيلول 2007 في لقاء جماهيري حضره أكثر من 5 آلاف شخص تقدّمهم عدد من المرجعيات المناطقية والفاعليات العشائرية، حاول “الخيار اللبناني” إيجاد خيار بديل في منطقة البقاع ولا سيما بعلبك الهرمل، ولكنه تعرّض للضغوط على أعضائه إضافة إلى ضعف إمكاناته.
في 15 حزيران العام 2007، عُقد في فندق “كومودور” ، في حضور النائبين باسم السبع وغازي يوسف، والمفتي السيد علي الأمين وشخصيات، “اللقاء الوطني لدعم الجيش وانتصارًا للدولة المدنية وإدانة للاغتيال السياسي”. أعلن اللقاء خياره الصريح انتصارًا للنهوض بالوطن ولقيام الدولة، دولة الحق والقانون والحريات والديمقراطية والكفاءة والمساواة في الحقوق، ورفض العبث بالوطن وسيادته، ودعم جيشه، كما ندّد بجرائم الاغتيال السياسي.
في 13 تموز 2007 أُطلق «”لقاء الانتماء اللبناني” في فندق “الريفييرا”، وضمّ علماء وشخصيات من الطائفة الشيعية، ترأس اللقاء أحمد الأسعد، وخاض الانتخابات النيابية في المناطق الشيعية عام 2009 و2018، وتعرّض مناصروه ومرشّحوه لتهديدات ومضايقات وأعمال عنفية في منطقة سيطرة “الثنائي” وسط عدم مبالاة من قوى 14 آذار. تمّ اغتيال رئيس قطاع الطلاب فيه هاشم السلمان في 9 حزيران 2013 إثر تظاهرة مناهضة لتدخل “حزب الله” في سوريا أمام السفارة الإيرانية.
في 7 تشرين الأول 2006 بدأ عقد لقاءات في دارة آل سليم في الغبيري انبثق منها في ما بعد تأسيس جمعية باسم “جماعة الديمقراطيين اللبنانيين” (جدل) بتاريخ11 شباط 2009، قامت بالعديد من اللقاءات والندوات التي تسعى إلى بلورة خيار شيعي وطني يسعى نحو الدولة المدنية بعيدًا من الترهيب والتخوين، شارك في هذه اللقاءات العديد من الشخصيات، وفي 14 نيسان 2014 تمّ تعديل بيان العلم والخبر للجمعية، وأصبحت باسم “ائتلاف الديمقراطيين اللبنانيين” في محاولة جديدة لمأسسة وتوحيد المواقف الشيعية المعترضة والعمل كمجموعة شيعية موحّدة تعمل في أفق وطني ومدني بمواجهة الإرهاب والتطرّف واحترام العقد الاجتماعي والدستور، وعدم الانفتاح على تحالفات خارج إطار الدولة اللبنانية .استمر الائتلاف في عقد اللقاءات الأسبوعية والندوات وإصدار البيانات المؤكّدة على الخيار الوطني اللبناني للشيعة والرافضة لكل أشكال التبَعية للخارج والهيمنة على الداخل، كما أصدر منشورًا دوريًّا تحت عنوان “فان رقم 4″، وفي 3 شباط 2021 تم اغتيال رئيس الإئتلاف وأحد مؤسسيه لقمان سليم في العدوسية.
اللبنانيون الشيعة بين الخذلان وعدم الاكتراث
خلال انتخابات 2005 و2009 تعرضت المجموعات والشخصيات والمبادرات اللبنانية الشيعية لأمرين: الأول، تعرضت للخذلان عام 2005 بعد إتمام الاتفاق الرباعي (“أمل” – “حزب الله” – “الإشتراكي” – “المستقبل”) فتركت تلك الشخصيات والمجموعات لمصيرها. والثاني، تعرضت للتهميش والإنكار بعد حصول اتفاق الدوحة في أيار 2008 والإتفاق على قانون الانتخاب، وحصول التسوية على انتخاب رئيس الجمهورية، بحيث أصبح تظهير إطار لبناني شيعي جدي بمواجهة “الثنائي” بعيدًا من أولويات بعض قيادات قوى 14 آذار التي كان فيها من يتحضّر للتوبة والعودة عن لحظات “تخليه” وآخر يتحضر للتسوية تحت مظلة الـ “السين – سين”، وقامت بعض تلك القيادات بإيصال شخصيات شيعية تتبع لها دون العمل على تكوين إطار لبناني شيعي ضمن بوتقة قوى 14 آذار، فتعرضت الشخصيات والقوى اللبنانية الشيعية المناوئة لـ “الثنائي” لكل أشكال التغاضي والإهمال والتهميش وصولًا إلى التواطؤ غير المعلن من البعض عليها، فكانت أن ظلّ الإطار اللبناني الشيعي ضمن 14 آذار فكرة لم تصل إلى الواقع.