من القمصان السود إلى حرب الإسناد : الخيار الوطني للشيعة باب الخلاص

اللبنانيون الشيعة المناوئون لنهج "الولاية" بين اليتم والإنكار "2"

بقلم عباس هدلا

فتح اتفاق الدوحة الباب الواسع ليبسط “نهج الولاية” الهيمنة ليس فقط على الشيعية السياسية إنما على الواقع السياسي اللبناني العام، فالإقرار بالثلث الضامن في الحكومة مع الوزير الملك وتعديلات قانون الانتخابات، مهّدت الطريق لينفض “حزب اللّه” يديه ممّا تمّ الاتفاق عليه، ويقوم بتطيير حكومة الحريري ومن ثمّ القيام بـ “غزوة القمصان السود” وفرض حكومة ميقاتي التي شهدت سابقة تمثلت بإخلال التوازن في توزيع المناصب الإسلامية فيها بحيث حظي السنة بسبعة مقاعد والشيعة بخمسة.

سمح هذا الأمر بتعرّض النخب اللبنانية الشيعية، للانكشاف الكلّي أمام أساليب التضييق والقمع والترهيب التي تمارس عليها من قبل المهيمنين على القرار السياسي الشيعي ومن يواليهم في إدارات الدولة اللبنانية وقواها الأمنية والعسكرية وأجهزتها القضائية، كما تعرّضت لحملات تخوين إعلامية وصولًا إلى هدر الدم، ولكن ذلك لم يمنع من إطلاق المبادرات الوطنية اللبنانية المناصرة لحقوق الشعوب في الحصول على الحرية، وتأكيد الخيار الوطني اللبناني، فأعلنت مجموعة من السياسيين والناشطين والمثقفين في 13 تشرين الأول 2011 عن تأسيس “تجمّع لبنان المدني بحضور السيدين محمد حسن الأمين وهاني فحص، مستندين إلى اندفاعة “الربيع العربي وما يحمله من وعود وأحلام وقيَم وأهداف نبيلة”، من أجل “توليد دينامية سياسية وشعبية للدفاع عن مشروع الدولة”. خفت وميض التجمّع مع الوقت لضعف التمويل ويأس بعض الأعضاء من الحالة السياسية ولا سيّما بعد التسوية الرئاسية عام 2016، كما برز عام 2012 “تجمّع الهيئات والقوى والشخصيات اللبنانية الشيعية المستقلة” كإطار شيعي رافضٍ عملية القمع والإبادة التي كان يتعرّض لها الشعب السوري من النظام وحلفائه وشارك ونظم، مع انطلاق الثورة السورية، العديد من الاعتصامات الرافضة لما يتعرّض له الشعب السوري من إبادة، وأطلق في تظاهرة 17 آذار 2012 شعار “كونوا أحرارًا في دنياكم” دعمًا لنضال الشعب السوري المنتفض للحرية والكرامة. وفي 5 حزيران 2013، أصدر عدد من الشخصيات الشيعية، نداء حمل عنوان “مبتدآت ومواقف – لبنانيون شيعة يخاطبون اللبنانيين”. وشدّد موقعو النداء على أنهم يبذلون “جهدًا تواصليًّا تنسيقيًّا تكامليًّا، شيعيًّا ووطنيًّا، سواء بسواء، متوخين من وراء ذلك المساهمة، بمقدار وِسْعهم، في ما ينهض له لبنانيون آخرون، كلٌّ وفق اجتهاده، من سعي إلى المحافظة على لبنان، الكيان والدولة”. وكان هو باكورة العمل المشترك الذي أطلق عليه في ما بعد “اللقاء التشاوري الشيعي”، حيث قام هذا اللقاء بالعديد من اللقاءات ولا سيما مع “لقاء سيدة الجبل” في سبيل الوصول إلى تجمّع وطني جامع في سبيل ما يعترض لبنان من مخاطر ولا سيّما تدخل “حزب اللّه” في سوريا. وأرسل اللقاء رسائل إلى الأمين العام للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ورئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان، أكّد فيها تحييد لبنان عن الصراعات والعمل على تقوية الدولة المدنية. انكفأ “اللقاء التشاوري الشيعي” لضعف الإمكانات وبفعل التسويات السياسية، ولكن بقي أعضاؤه يسعون إلى تطبيق أفكاره من خلال مشاركتهم في المبادرات الوطنية، وكان آخرها لقاء “البيت اللبناني”عام 2019.

ورغم حصول التسوية الشاملة التي أوصلت العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية عام 2016 وانهيار ما عرف بقوى 14 آذار وتشرذمها، وتحوّل “حزب اللّه” إلى مرشد الولاية، أُعلن “نداء الدولة والمواطنة” في 4 تشرين الأول 2017، من قبل لقاء لشخصيات شيعية مستقلة، ضمّ معظم أطياف مَن يعارضون مشروع “حزب اللّه”، سواء جغرافيًّا في البقاع أو الجنوب أو بيروت، أو سياسيًّا، ووجّه المجتمعون نداء إلى اللبنانيين، تلاه الرئيس السابق لبلدية بعلبك غالب ياغي، ارتكز على عناوين ثابتة أبرزها “بناء الدولة ومواجهة الدويلة”، مع تقديم رؤية مختلفة لواقع الطائفة الشيعية وأولوياتها الوطنية، كما شدّد البيان على أولويّة التغيير داخل الطائفة الشيعية، واعتباره مدخلًا إلى كسر الانسداد الوطني. حاولت الشخصيات المنضوية تحت هذا اللقاء خوض انتخابات 2018 وخاصة في الجنوب، فتعرّضت للمضايقات وصولًا إلى الاعتداء الجسدي، كما حصل مع السيد علي الأمين عن لائحة “شبعنا حكي” في بلدته شقرا في 22 نيسان 2018.

انخرط الناشطون اللبنانيون الشيعة في ثورة 17 تشرين بقوّة وفاعلية، وبعد العديد من اللقاءات والمشاورات تمخض، بعد 50 يومًا من انطلاق الثورة، ائتلاف تحت اسم “ثورة 17 تشرين ــ المقاومة السِّلْمية”، الذي أكّد في بيانه الأول، “إسقاط ثقافة الخوف والتخويف التي لم تَكُفَّ قوى الأمر الواقع طيلة العقود الماضية عن السعي إلى نشرها بينهم (اللبنانيين)، متوسّلةً كلَّ ما في جُعْبَتِها مِنْ أدوات ناعمة وخشنة، واندحار محرّمات سياسية واجتماعية تُنْسَبُ إلى الفرادة والقداسة، وتُعَدُّ ذَواتًا معصومة فوق النقد”. وعلى إثره تعرّض أحد مؤسسي هذا الائتلاف ورئيسه لقمان سليم للتخوين والتهديد في 11 كانون الأول 2019 من خلال محاصرة خيمة كان متواجدًا فيها في ساحة الشهداء، ثم من خلال تنظيم تَجَمُّع داخِلَ حديقة دارته في حارة حريك هَتَفَ بِعِباراتِ التخوين والشتيمَة، ثم ليل 12 كانون الأول عندما قام الخَفافيشُ أنْفُسُهُم بإلصاق شعاراتِ التخوين والتهديدِ بالقتل على سورِ الدارة ومَداخِلِها.

أُنهيت حياة لقمان سليم في 3 شباط 2021 من خلال اغتيالٍ للجسد على أيدي مجرمين حاقدين، وانتقل إلى الفردوس الأعلى، لكن أفكاره ورؤاه وأمانيه وتطلعاته، ما زالت مترسّخة في ما قاله وكتَبه، لا سيّما ما وثقه في أيام ثورة 17 تشرين كبابٍ لخَلاص لبنان من الهيمنة والاستئثار والفساد والقتل والإرهاب والإفلات من العقاب.

وفي 26 تشرين الأول 2023 وفي أوتيل “سمول فيل” في بيروت تمّ إعلان “حركة تحرُّر” (حركة الاعتراض الشيعي من أجل لبنان)، وهي محطة من محطات الاعتراض الشيعي الرافض لهيمنة “ثنائي” السلاح والفساد على الحياة السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية الشيعية.

وبعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024، أطلق عدد من المثقفين والشخصيات الشيعية في 17 كانون الأول 2024 مبادرة “نحو الإنقاذ” كوثيقة سياسيّة وطنيّة مشدّدة على أهمية العودة إلى تطبيق الدستور واتفاق الطائف كإطار سياسي جامع. تبعها في الـ 20 من الشهر نفسه إطلاق “المنبر الوطني للإنقاذ” ومن خلال مجموعة من الشخصيات الشيعية والوطنية اللبنانية التي أطلقت النداء الوطني الذي يؤكد أن لا حل إلّا بالدولة السيدة القادرة.

في 1 حزيران 2025، تم إطلاق “لقاء اللبنانيين الشيعة” بمشاركة قرابة 100 شخصية من مثقفين وناشطين، بدعم من مؤسسة “أمم للتوثيق والأبحاث”، كمسار جديد يُكتب من قلب الطائفة الشيعية وباسمها ويتوجه إلى جميع اللبنانيين للسعي معًا “نحو دولة مدنية حديثة، دولة السيادة وحصرية السلاح، دولة العدالة الاجتماعية، ودولة القضاء المستقل”.

كما يظهر، ورغم كل أساليب الترهيب والتضييق والقمع، ورغم كل حالات الإنكار والخذلان والإهمال، لا يزال الخيار الوطني للبنانيين الشيعة واقعًا، ولا يزال هناك من يؤمن به، وبات واضحًا أن هذا الخيار الذي يحتاج إلى كل دعم واحتضان هو باب الخلاص ليس فقط لأبناء الطائفة الشيعية بل لكلّ اللبنانيين وهو مفتاح الخروج من واقع الضعف والهوان إلى الدولة القادرة القوية.

اخترنا لك
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com