خاص بوابة بيروت

رئيس التحرير
خلال إحتفال يوم الشهيد أطلق الأمين العام لـ«حزب الله» نعيم قاسم خطابًا حافلًا بالبلاغة الاستعراضية والادعاءات الجاهزة. كلماتٌ تكرِّرُ نفس السردية القديمة: «انتصارٌ» هنا، «حصارٌ سيبرره الخطر» هناك، و«سلاحٌ خارج الدولة» باعتباره خطًّا أحمر لا يمسه أحد. لكنّ وراء هذا الوهج البلاغي تكمنُ حقائقٌ مغايرة، وحساباتٌ مزمعة تقرع أجراس الخطر على الجنوب اللبناني.
إنّ البيان الذي ألقاه قاسم لا يتجاوز كونه مزيجًا من النفاق السياسي وتجميل الفشل، ولا يصلح إلا غطاءً لما هو أعمق، إنكار مسؤولية من هم في موقع القرار عن النتائج الكارثية لسياساتهم.
من البلاغة إلى الحقيقة
يُطلّ علينا الخطاب بمقولة «أُولي البأس» كقناعٍ يُخفي غيابَ الاستراتيجية لا أكثر. فالادعاء بأنّ «معركة أُولي البأس وقفت حاجزًا أمام الاجتياح» يُقرأ في بُعده الأيديولوجي، لا في منطق التحليل العسكري أو الواقعي. ذلك أنّ التصعيد المتبادل الذي يُفتَعل أو يُستَثمر خارج خريطة الدولة لم يُنتِج حماية حقيقية للسكان، بل حوّل الجنوب إلى ميدانٍ مفتوح لتصفية الحسابات الإقليمية، فكانت النتيجة تهجير عشرات الآلاف من المدنيين وتدمير بلداتهم وبنيتها التحتية.
أما اتهام العدو الإسرائيلي باختلاق الذرائع، فليس إلا غطاءً لستر الفشل الداخلي المتراكم. فالتذرّع الدائم بأنّ كل نقدٍ وطني هو ترجمةٌ لمؤامرةٍ خارجية، إنما يُسقط التمييز بين السبب والنتيجة، ويُعفي أصحاب القرار المحليين من أي مساءلة وطنية حقيقية. أين كانت هذه الخطابات حين عجزت المنظومة نفسها عن حماية المدنيين أو عن بناء قدرةٍ دفاعية تستند إلى الدولة لا إلى الفصيل؟
وفي المقابل، يأتي تحويل اتفاق وقف إطلاق النار إلى “نصرٍ سياسي” ليُخفي المأساة الواقعية على الأرض، قرى مهدّمة، اقتصاد يحتضر، ونازحون فقدوا كلّ شيء. النصر الحقيقي لا يُقاس بالمنابر ولا بالتصفيق، بل بقدرة الدولة على إعادة البناء، واستعادة السيادة، وتثبيت الأمن على أساسٍ وطني لا حزبي.
ثم يطلّ الادعاء بأنّ وجود الجيش اللبناني في الجنوب «ربحٌ» للمقاومة، وكأنّ الجيش مجرّد ديكور معنوي أو واجهةٍ لتوازنٍ مختلّ. إنّ القيم الوطنية تقتضي أن يكون الجيش سيد الأرض، لا شريكًا رمزيًا في ظلّ هيمنة السلاح الخارج عن مؤسسات الدولة. فالسيادة ليست منحةً من فصيلٍ مسلح، بل حقٌّ يُمارس من خلال المؤسسات الشرعية وحدها.
وأخيرًا، حين تُرفَع الشعارات عن «الخطر الوجودي» و«حدّ الاحتمال» و«التمسّك بالسلاح»، فإنّها لا تعبّر عن استراتيجيةٍ بقدر ما تعكس خوفًا من خسارة السيطرة. هذه اللغة تُخاطب الهلع لا الوعي، وتستثمر الخشية بدل أن تقدّم رؤية. فهل يحتاج الجنوب اليوم إلى مزيدٍ من التهويل، أم إلى خططٍ مدنية حقيقية تُنقذ الناس من الموت والدمار؟ إنّ الجنوب ليس بحاحة الى شعاراتٍ جديدة تُشعل رماده، بل دولةً تبني له غدًا يليق بتضحياته.
النفاق السياسي والغرور الغبي، ثمنٌ باهظ يدفعه الجنوب
إن تزكية خطابٍ يبالغ في توظيف الشهادة والمقاومة بينما يغضُّ الطرف عن المسؤوليات الإدارية والاقتصادية، إنما هي عملية تجميل لسياساتٍ فشلت في تحقيق أمنٍ مستدام ولا رفاهية مدنية. هذا النفاق السياسي “الممزوج بغرورٍ أيديولوجي” لا يحمِي الجنوب ولا يردع العدو، بل يجرّه تدريجيًا إلى «الجحيم الأسفل» الذي يتحمله المدنيون أولاً وآخراً.
نصيحة وطنية
الخطاب لا يبني دولًا ولا يعيد أمجادًا تُبنى على حساب دماء المواطنين. إن استمرار الانغماس في خطاب الاستعراض وتكرار ادعاءات النصر بينما تتكدس المعاناة على الأرض، سيقود الجنوب إلى مأزقٍ أعظم. على القادة أن يختاروا، إما تبنّي سياساتٍ وطنية حقيقية تعيد بناء الدولة القادرة والعادلة، وتضع السلاح تحت شرعيتها، أو الاستمرار في التباهي الذي لن يترك خلفه سوى رمادٍ ومآسي.
نهاية القول، ليست البطولة أن يصرخ المرء على المنابر، بل أن يضع خطة لإعمار الجنوب، حماية أهله، وإعادة مؤسسات الدولة إليه. وإلا فسيَبلغ الجنوب حتفه بفعل غرورٍ سياسي مُكلَّف، ولن تُنقذه أي شعارات تُنطق عن «المقاومة» وهي نفسها تُنكر وطنيتها.