وقف تدرّج محامية لممارستها “الصحافة الحقوقية”: إخضاع الحرية المضمونة لنظام الإذن المسبق

المفكرة القانونية

أصدر المجلس التأديبي لدى نقابة المحامين في بيروت، في تاريخ 5/11/2025، والمؤلف من المحامين هادي خليفة رئيسًا ولبيب حرفوش ورمزي الأشقر عضوين، قرارا تأديبيا قضى بمنع المحامية المتدرجة رلى دايخ من مزاولة مهنة المحاماة لمدة 6 أشهر وذلك على خلفية نشرها محتوى قانوني عبر منصّات التواصل الاجتماعي.

ويلحظ أنّ المجلس استند لتعليل قراره إلى التعديل الذي أجراه مجلس نقابة المحامين في 3 آذار 2023، ولا سيما إلى وجوب الحصول على الإذن المسبق لأي ظهور إعلامي أو على وسائل التواصل الاجتماعي؛ وهو التعديل الذي كانت المفكرة القانونية اعترضت عليه لما يتيحه من تقييد لحريات المحامين واستقلاليّتهم. وإذ استند القرار علاوةً على ذلك إلى المادة 85 من قانون تنظيم المهنة التي تحظر على المحامي السعي لاكتساب الزبائن بوسائل الدعاية، فإنه خلص إلى ذلك انطلاقا من كونها ما تزال “محامية متدرّجة … في طور التعلّم والتدرّج ولم تكتسب المهارات المهنية الكافية التي تخوّلها القيام بهذا النشاط الذي لا يمكن تفسيره (بفعل ذلك) إلّا أنّه واقع ضمن إطار الدعاية الشخصية المباشرة لها”. بمعنى أنه اعتبر أن ثمة قرينة أنّ أي ممارسة للعمل الصحفي إنّما تشكل إعلانًا وترويجًا في حال قام بها محامٍ متدرج.

وإذ أثارت المحامية المتدرجة الدايخ أن القانون يجيز صراحةً للمحامين المتدرجين كما لمجمل المحامين ممارسة الصحافة الحقوقية، ردّ المجلس بصورة مستغربة جدا هذه الحجة كونها “لا تستقيم قانونًا كونها لم تستحصل على رخصة قانونية والإذن النقابي اللذين يجيزان لها ذلك”. وهو بذلك ذهب إلى إخضاع ممارسة حرّية مباحة بل مضمونة قانونًا للإذن النقابيّ المسبق، مع ما يرشح عنه ذلك من تعسف وقلب للقاعدة المتمثلة في مبدئية الحرية واستثنائية القيد عليها.

بالمقابل، لم يتضمّن الحكم التأديبيّ أي مؤاخذة لماهية المحتوى المنشور، سواء لجهة مدى دقته أو لجهة احتوائه عبارات ترويجية للذات أو لإنجازات المحامية المتدرجة المحكوم عليها؛ مما يؤشر إلى أن الملاحقة التأديبيّة قد استهدفت مبدئية النشر أكثر مما حصلت على خلفية مضمونه أو الغاية منه.

وعليه، يستدعي هذا القرار الملاحظات الآتية:

التدرّج كقرينة على القصور المعرفي و… الدعاية
كما سبق بيانه، استمدّ القرار وجود قرينة على كون نشر المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي إعلانًا من كون الناشرة ما تزال “محامية متدرجة في طور التعلّم والتدرّج ولم تكتسب المهارات المهنية الكافية التي تخولها القيام بهذا النشاط”، بمعنى أن أيّ نشر لمحتوى من شخصٍ تنقصه المعرفة هو إعلان وليس إعلاما. وبالطبع، تفترض هذه القرينة بالضرورة وجود قرينة أخرى قوامها أن المحامية المتدرجة لا تملك بالضرورة المعرفة القانونية ولا الخبرة الكافية اللازمتين لتقديم محتوى حقوقي.

والواقع أن كلتا القرينتين غير صحيح ولا يصمد أمام أي نقاش جدي للأسباب الآتية:

إن الحرية الإعلامية مضمونة دستوريا وللجميع، وإن إخضاع من يودّ ممارستها لامتحان مسبق بشأن معارفه العلمية إنما يؤدّي عمليا إلى فرض قيود غير مبرّرة عليها؛ وأكثر ما يخشى هنا هو أن تستغلّ النقابة هذه السلطة في تقييم المعرفة من أجل تحديد ما هو صحيح أو خطأ، وتاليًا ما يجوز نشره وما لا يجوز نشره، مع ما يحتمله ذلك من قمع لأي توجه أو رأي مخالف، ولحق العامة بالمعرفة والاستعلام،
إن اكتساب المعرفة القانونية لا يرتبط بداهة بمدى إتقان مهنة المحاماة. إذ من البديهي أن للباحث أو الأكاديمي أو الصحفي الحقوقي أو القاضي أن يتقن المعرفة القانونية من دون أن يكون محاميًا ممارسًا، وكذلك المحامي المتدرج. وعليه، فإنّ نشر محتوى قانوني أو خطاب حقوقي للعموم لا يعني بالضرورة نيّة تقديم استشارات قانونية أو دعاية شخصية، طالما أن المحتوى خلا من أيّ دليل على ذلك. وبالواقع، تعكس هذه القرينة غير الصحيحة نوعًا من الازدراء تجاه المحامين المتدرجين، فيُنظر إلى التدرج ليس كمرحلة اكتساب خبرة في إتقان مهنة المحاماة من خلال الممارسة، بل مرحلة قصور قانوني ومهني تستوجب تخليّا عن حرية التعبير وخضوعًا تامًا لسلطة النقابة الأبوية.
المجلس التأديبي يحظر ما سمح به القانون
كما سبق بيانه، قرر المجلس التأديبي تقييد حق المحامي في ممارسة الصحافة القانونية والمكرّس في المادة 15 من قانون تنظيم مهنة المحاماة، حيث اعتبر أنه ليس للمحامي ممارسة هذا الحق من دون الحصول على ترخيص مسبق. والواقع أن المجلس التأديبي يتعسّف هنا من خلال حظر ما أباحه صراحة القانون.

ولئن استند المجلس التأديبي لمخالفة القانون إلى التعديلات التي أدخلها مجلس النقابة على الآداب المهنية في سنة 2023، والتي ذهبت في اتجاه إخضاع حرية المحامين في المشاركة في الندوات والحوارات وكما أيّ ظهور إعلامي للرقابة المسبقة من قبل نقيب المحامين، فإنه يكون بذلك قد ارتكب مخالفة مزدوجة للقانون:

المخالفة الأولى، هي مخالفة مبدأ تسلسل القواعد وفق المادة 2 من قانون أصول المحاكمات المدنية، طالما أنه ليس لأي تعديلات صادرة عن مجلس النقابة أن تؤدي إلى حظر ما يبيحه القانون الذي يبقى الأسمى والأعلى،

أما المخالفة الثانية، وهي لا تقلّ فداحة ووضوحًا، فهي تتمثل في استناده إلى قاعدة قانونية تم إلغاؤها قبل صدوره. فمن الثابت أنّ الحكم التأديبي قد صدر في تاريخ 11 تشرين الأول 2025، أي بعد أيام من تراجع مجلس النقابة عن تعديلات 2023. وما يزيد من فداحة المخالفة هنا هو أن التراجع عن هذه التعديلات تمّ في خضم إرادة معلنة في تصحيح الخطأ المرتكب في 2023 وتحديدا في إلغاء نظام الإذن المسبق. وهذا ما نستشّفه بوضوح كلّي من التصريحات الإعلامية لنقيب المحامين فادي المصري الأخيرة والتي اعتبر فيها أن نظام الإذن المسبق يؤدي إلى تقييد مضرّ لحريّة المحامي في التعبير وأن النقابة قررت تصحيحًا لذلك العودة إلى نظام الرقابة اللاحقة. وانطلاقًا من كل ذلك، يكون المجلس التأديبي من خلال تمسكه بتعديلات 2023 الملغاة، قد خالف ليس فقط مبدأ رجعية القوانين العقابية والتأديبية الأصلح للمتهم، أي الأكثر رحمة أو الأقل قسوة، ولكن أيضا قيم الحرية التي كان مجلس النقابة قد فاخر بالتمسّك بها قبل أيام فقط من صدوره.

الترويج لنظام الإذن المسبق تحت غطاء موجب الحيطة
أخيرًا، ذهب المجلس التأديبي أبعد من ذلك في اتّجاه التّرويج لنظام الإذن المُسبق كضمانةٍ لتجنّب أيّ اتّهام بالترويج للذّات. وهذا ما نستشفه من مجموعة من التصريحات التي لا أساس لها والتي عجّ بها القرار. ومن أهم هذه التصريحات، قوله “أن ما تنشط به على وسائل التواصل وما تنشره من مواضيع قانونية ذات طابع استشاري مع دعوتها الجمهور إلى استشارة محام إنما تروّج لنفسها بصفتها المهنية كمحامية، وهو ما يخلق في ذهن الجمهور ويرسّخ لديه أنها محامية ناجحة تعلم في كلّ المواضيع المطروحة ويؤكّد أنها تستجلب الدعاية والزبائن لشخصها كمحامية”. ويكاد هذا التصريح أن يرادف القول بأن من شأن أي ظهور إعلامي لمحام أن يولد شبهات قابلة للمساءلة المسلكية وذلك بمعزل عن مضمون المحتوى أو الغاية منه. وقد استكمل المجلس تصريحه هذا بتصريح آخر أدلى به “على سبيل الاستفاضة في البحث”، ومفاده أن على المحامي “كي لا يعرض نفسه لأية مسالة مسلكية (…) أن يكون حذرًا ومنتبهُا في جميع تصرفاته (…) كون أيّ إخلال بها سوف يرتدّ حكماً على القيم المعنوية للمهنة والتي لا تتوانى سلطات النقابة عن تحصينها أفضل تحصين”. ويشكّل ذلك دعوة ضمنية للمحامي بوجوب استئذان النقيب قبل أي ظهور إعلامي من باب الحيطة، وتجنّبا لارتكاب أي مخالفة تأديبية. من هذه الزاوية، بدا المجلس التأديبي هنا أيضا وكأنه يخالف مجلس النقابة الحالي من خلال تغليب نظام الإذن المسبق على الرقابة اللاحقة وتسخير سلطة قراره من أجل الترويج لذلك.

أخيرا، تجدر الإشارة إلى أن المحامية المتدرجة المحكوم عليها قد استأنفت الحكم أمام محكمة الاستئناف النقابية، والتي يؤمل منها أن تعيد النظر فيه انطلاقا من مقاربة حقوقية لحريات المحامين، مقاربة تكون انسجاما مع مبادئ الحرية والعدالة والمساواة. فلنراقب.

اخترنا لك
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com