بقلم د. طلال خواجه

أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية
تعرّفت على رياض في تسعينيات القرن الماضي حين انتخب مندوبًا لرابطة الاساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية عن معهد الفنون الفرع الثالث الى جانب زميليه فضل زيادة و رياض عويضة.
و في اللقاء الاول الذي جمع مندوبي الفروع الشمالية، ادركنا اننا امام خلطة شمالية رائعة، تجمع بين الطيبة العكارية والسوابق اليسارية و الالتزام بالقضايا الاكاديمية. و سنكتشف لاحقًا، خصوصًا بعد تقاعده ان استاذ فلسفة الجمال في المعهد “الكلية” هو شاعر واديب وانسان يقارب القضايا الفكرية بالعقل والاحساس معًا.
كانت الجامعة اللبنانية تمر بمرحلة اعادة تأسيس و تكوين في معظم مرافقها الاكاديمية والادارية والعمرانية و النقابية بعد انتهاء الحرب الاهلية، بشقها الحامي على الأقل.
و كانت الحرب قد شطرت العاصمة اللبنانية بيروت و شطرت معها الجامعة اللبنانية التي عانت و تشظت و تمذهبت فروعها تحت مطرقة قوى الامر الواقع التي نقلت جزءًا من عقلية الميليشيا الى الصفوف والمدرجات والباحات.
كانت الدولة بالكاد بدأت تستجمع قواها بعد اتفاق الطائف عندما وقعت تحت وصاية النظام السوري السابق الذي تعامل مع مؤسسات الدولة، بما فيها مؤسسة الجامعة اللبنانية، بإسلوب الهيمنة والتسلط و رعاية الفساد،
كما عمل على التلاعب بالقوى السياسية و الهيئات و الفعاليات و النقابات ليسهل عليه ادارة سيطرته الاحتلالية على البلد.
كان على أساتذة الجامعة اللبنانية ان يواجهوا كل الآفات التي اخترقت الجامعة، بما فيها آفة الفساد الاكاديمي، بادئين باعادة تجديد رابطتهم، و بالتعاون مع النقابات والروابط حيث اسسوا سويًا هيئة التنسيق النقابية التي واجهت بشجاعة هيمنة الاجهزة السورية و تسلط اتباعها.
انتخب المثقف الديمقراطي الطيب رياض عوض مندوبًا في الوقت المناسب.
فرغم التدخل السياسي في التوظيف والتجهيز، ورغم اختراقات الاجهزة السورية لبعض الكليات والادارات، بما فيها الادارة المركزية، الا ان الهوى الديمقراطي ظل يلفح عموم الاساتذة الشماليين الذين نجحوا في تعزيز الهيئة التنفيذية للرابطة برياض عوض رغم رغبة بعض الزملاء بحجز “التمثيل المسيحي” بالفروع الثانية لتسهيل المواجهات النقابية والاكاديمية، و هو ما انطبق على باقي الفروع بطريقة او باخرى. اذ ان عدوى المحاصصة الطائفية أصابت جسم الاساتذة و رابطتهم، و لاحقًا تمددت الى الفروع الشمالية “التي بقيت عصيّة على الاحتواء لفترة” مع تصاعد المظلومية السنية، خصوصًا بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري.
نجحت رابطة الاساتذة في تحسين الرواتب بعد انهيارها المفجع و في انشاء صندوق التعاضد و في عودة بعض المجالس الاكاديمية و في اطلاق ورش تحديث الانظمة الادارية، وفي مواكبة استكمال مدينة الحدث الجامعية من قبل الرئيس الحريري، مما ساهم في ايقاف هجرة الاساتذة و عودة الروح للجامعة، قبل ان تعود الامور الى التدهور مع الانهيار السياسي والاقتصادي و المالي و النقدي.
لم نكتف بالمقاربة النقابية المتجانسة مع الراحل رياض عوص داخل وخارج الهيئة التنفيذية للرابطة، بل تعديناها نحو رسم رؤية مشتركة لمستقبل الفروع الشمالية، والتي تتضمن انشاء مدينة جامعية. لذا كان رياض عوض ثالثنا حين اطلقنا فكرتها مع الراحل مصباح الصمد في لقاء جمعنا الثلاثة مع الشهيد الحريري الذي التزم معنا دون تردد قضية المدينة الجامعية في المون ميشال.
بعد التقاعد اعتصم رياض عوض ببلدته الجديدة، مطلقا العنان لقلمه الشعري والثقافي الذي غذّته ارض عكار الطيبة، و لم يبطئه كثيرًا المرض المتسلل الى جسم الراحل، الى ان وافته المنيّة بعد ان ترك لنا تراثًا ثقافيًا و انسانيًا، سيشكل دون شك ذخرًا للأجيال، خصوصًا في الجامعة اللبنانية و في عكار التي سيكون لها دور كبير في دولة لبنان الجديدة و التي تصارع لاعادة الامساك بوطن الأرز في مرحلة التحولات الكبرى.
فوداعًا رياض، حقًا لقد كنت حلقة في سلسلة أواخر الرجال المحترمين.