بقلم بلال مهدي – خاص بوابة بيروت
@BilalMahdiii

رئيس التحرير
بلدٌ أثقلته عقودٌ طويلة من الفساد يعيش اليوم تحت وطأة أزماتٍ متراكمة تهدّد ما تبقّى من مؤسساته، وليس مستغربًا أن يخرج عرّابا الحروب ليحاضرا بالعفّة ويتحدّثا عن الإنقاذ وكأنهما لم يكونا شريكين في انهيار الدولة وتفكّكها.
نبيه بري ووليد جنبلاط، بوجهٍ جديدٍ كل يوم، يُمنحان فيه لنفسيهما حقّ الوعظ والإرشاد، وكأنَّ التاريخ قد مُسِح، والذاكرة العامة قد بُهِتت، والمسؤوليات قد سقطت سهواً. كأنّهما لم يكونا طوال عقودٍ كاملة جزءاً من منظومة تقاسمت الدولة ونهشت مؤسساتها وحوّلتها إلى إقطاعياتٍ سياسية ومزارع طائفية.
اليوم، يقفان على منابر “العفّة الوطنية”، ويتحدثان عن الدستور، وعن الدولة، وعن السيادة، وعن الأسرار الكبرى، فيما لبنان يترنّح فوق مقبرةٍ من الانقسامات صنعوها هم، ويغرق في خرابٍ كانت مفاتيحه بأيديهم.
بري… “الشجرة المثمرة” التي أسقطت الدولة
يخرج نبيه بري غاضباً مما يسميه “غزوة” عليه وعلى المجلس النيابي. يَعتبر نفسه “الشجرة المثمرة” التي تُرشَق بالحجارة!
أي ثمرة هذه يا حضرة الرئيس؟ ثمرة الفساد؟ ثمرة تعطيل الحكومات؟ ثمرة نسف المحاسبة وتكريس مبدأ “ما إلنا غير الله وإنت”؟
أنت تتحدث عن قانون الانتخابات وكأنه كتابٌ مقدّس، فيما أنت أول من عطّل، وناقض، وهدّد، وفاوض، وغيّر قواعد اللعبة عند كل مفترق بما يناسب إبقاءك ممسكا برقاب النظام.
تُحمّل الحكومة مسؤولية “رمي كرة النار” على المجلس، بينما نسأل، من الذي حوّل المجلس النيابي إلى غرفة مقفلة تُدار فيها التسويات في الليل، وتُعطَّل فيها الرقابة في النهار؟ من الذي جعل هذا المجلس رهينة التوافقات الفوقية، بدل أن يكون مركز القرار الوطني؟
ثمّ تتباهى بأنك “مستهدف منذ 12 عاماً” في أميركا، وكأنّ العقوبات شرفٌ معلّق على صدرك، بينما الحقيقة أنّ اللبنانيين وحدهم يدفعون ثمن السياسات التي كرّست العزلة والانهيار والتهريب والزبائنية.
ملوك الحرب حين يحاضرون بالعدالة والإنسانية
أما وليد جنبلاط، فيخرج عبر “أكس” متسائلاً عن الوفود “السيادية” التي تزور واشنطن، ويتهمها بالتشكيك والتحريض، ويسأل عن معاشات الجيش والسجون والمرض والانتحار!
سؤال بسيط يا زعيم المختارة، من الذي شارك لعقود في تقاسم الوزارات والأجهزة؟ من الذي كان شريكاً كاملاً في سياسات المحاصصة التي أفقرت مؤسسات الدولة وجعلت السجون مقابر بشرية؟ من الذي كان جزءاً من كل تسوية أو انقلاب أو اصطفاف، وفقًا لمصلحة النخبة وليس مصلحة الوطن؟
لا يحتاج الأمر إلى ذاكرة قوية، يكفي أن نتذكّر أن وليد جنبلاط كان طوال الحرب وبعدها لاعباً أول في تشكيل الحكومات وإسقاطها، وفي توجيه دفة التحالفات، وفي صناعة الزعامات وإجهاض المشاريع الإصلاحية.
واليوم يريد لنفسه دور “الحكيم”، متحدثاً عن الجيش والسجون وكأنّه ليس شريكاً في إهمالها واستنزافها.
محاضرات العفّة بعد قتل الدولة
ما يجمع بري وجنبلاط اليوم هو الشعور نفسه، الخوف من ولادة دولةٍ لا مكان فيها لسياسات الزعامة الوراثية ولا للميليشيات المقنّعة ولا لاقتصاد الزبائنية.
اليوم، حين يشعر هؤلاء أن الشارع اللبناني بات أكثر وعياً، وأن صورة “الزعامات التاريخية” سقطت، يبدأون ببثّ خطاب العفّة، بري عن الانتخابات والقانون… جنبلاط عن الجيش والسجون…
بينما الحقيقة واحدة، هؤلاء هم من قطعوا أوصال الدولة، ومزّقوا دستورها، وحوّلوا المسؤوليات العامة إلى حصص وغنائم.
من يجب محاسبته لا تقديسه
اللبنانيون اليوم لا يريدون سماع عظاتٍ ممن شارك في صناعة الخراب. لا يريدون خطباً عن السيادة من صانعي الانقسامات. ولا يريدون رقابةً من أشخاصٍ جعلوا الفساد جزءاً من بنية الحكم.
لقد آن الأوان لأن يُقال بصوت عالٍ، من حفر الهاوية لا يحق له أن يقدّم نفسه دليلاً للخلاص. ومن هدم الدولة لا يمكنه أن يكتب دستورها. ومن تلاعب بمصير الناس لا يستحق إلا المحاسبة… لا التبجيل.
لبنان لن ينهض إلا يوم تُكسَر هذه الحلقة الجهنمية… يوم يتحرر من أسر الزعامات التي جعلت الحرب سلماً، والسلم حرباً، والدولة مسرحاً لمصالحها.
وعندها فقط… يعود الوطن وطناً، ويعود الشعب سيّداً، ويغدو التاريخ مرآةً لا يمكن لأحد أن يكسرها مهما تغيّرت الوجوه والخطابات.