بقلم هشام بو ناصيف
صدر كتاب المفكّر السوري البارز صادق جلال العظم “النقد الذاتي بعد الهزيمة” عام 1968، وشكّل تفكيكًا منهجيًّا لمنظومة فكريّة عربيّة مهّدت الطريق لهزيمة 1967، ولرفض فهم أسبابها. يحتاج شيعة لبنان اليوم لقراءة صادق جلال العظم لسببين، أوّلهما أن أدوات التفكير والعمل التي أطنب بنقدها قبل عقود ليست غريبة عن أدواتهم، وثانيهما أن البروباغاندا السائدة بينهم حاليًّا ليست أفضل بكثير من بروباغاندا البعث والناصريّة بعد حرب الأيّام الستة.
أبدأ بما هو أساسي: تسمية الأمور بأسمائها. تعمّد صادق جلال العظم استخدام كلمة “الهزيمة” بعنوان كتابه عن الحرب لأنها كانت كذلك. ومن المعروف أن البروباغاندا الناصريّة فضلت عام 1967 استخدام تعبير “النكسة” المخفف للتعمية على هول الخسارة.
والحال أن حسن نصرالله تفوّق بعد حرب عام 2006 على أجهزة ناصر – التي اعترفت على الأقلّ بخسارتها، ولو حاولت التخفيف لغويًّا من وقعها – إذ صوّر الكارثة التي حلّت بلبنان ذلك العام بسبب تهوّره كنصر إلهيّ. ويتابع نعيم قاسم اليوم نفس منهاج التعمية بزعمه أن حزبه تعافى، علمًا أنه فقد بالحرب الأخيرة خمسة آلاف من مقاتليه، وجلّ قياداته الميدانيّة، وأمينه العام، والأمين العام اللاحق، فيما تصطاد إسرائيل دوريًّا عناصره، من دون أن يقوى “الحزب” على الردّ، سوى بطمأنتها أنه لن يهدّد بعد اليوم أمن مستوطناتها، علّها ترحمه.
يحصل كلّ هذا، بينما عادت جوقة محترفي تسطيح الوعي لاحتلال الشاشات وتهديد إسرائيل بمفاجآت، وأسلحة جديدة، وصواريخ ما كانت بحوزة “حزب اللّه” سابقًا، وصارت عنده. هذا سبب أوّل لماذا يحتاج شيعة لبنان لقراءة صادق جلال العظم: نزاهته الفكريّة خير لهم من جيش الأبواق الإعلاميّة الفالتة المتكالبة على وعيهم.
ثانيًا، حاجج العظم أن هزيمة العرب لم تكن وحسب عسكريّة، بل أيضًا، وأوّلًا، فكريّة، وسياسيّة، وثقافيّة. جوهر ما ذهب العظم إليه هو أن العرب يغرقون بالخطابات الحماسيّة، ومزاعم الانتصار المبالغ بها قبل الحرب، وبنظريّة المؤامرة بعدها، فضلًا طبعًا عن نزعتهم للوم الآخرين، بدل النظر إلى قصورهم الذاتي الممهّد لخسارتهم. أطنب العظم بتحليل شخصيّة “الفهلوي” العربي، وهو الكسول المتفلسف، الذي يريد أن يهزم العدوّ، ولا جلد له أو رغبة بتحمّل مسؤوليته كفرد كي ينتصر مجتمعه فعلًا. هنا أيضًا، ومن منظار مقارن، يحضر في البال سيل المزاعم الشيعيّة في لبنان التي ملأت الشاشات فخرًا بأن الشيعة يلعبون بـ “الملعب الكبير” حسبما قال فهلوي من عتاة فهلويّيهم، وبأن إسرائيل “مأزومة”، وبأن الميليشيا الشيعيّة فرضت “توازن رعب”، وبأن أيّ دمار بلبنان سيحلّ مقابله دمار مشابه بإسرائيل الواهنة كبيت العنكبوت، وما شاكل من طوفان حماسة دائم، ولغو، وانتصارات محققة، وتحرير حتمي للجليل، ولكن فقط على الورق. ولا أنسى طبعًا الرديّة الشيعيّة الشهيرة التي ناشدت حسن نصراللّه قبل موته بأن “يا سيّد يلّا/دخيل الله”، أي أعلنها حربًا شاملة بدل مجرّد حرب إسناد.
استمرّ كلّ ذلك لسنوات طويلة، دون أن يكلّف أحد نفسه مقارنة حجم اقتصاد لبنان باقتصاد إسرائيل، أو مستوى الجامعات في البلدين، أو التكنولوجيا العسكريّة هنا وهناك، أو القدرة على الخرق الأمني. كان كلّ هذا تمهيدًا مباشرًا للهزيمة المدويّة اللاحقة، لأن هذه الطريقة بإدارة الصراع ما كان بإمكانها أن توصل إلى غير نتيجة.
انتقد العظم أيضًا عبادة القائد/البطل القادر أن يهدي شعبه النصر على العدوّ، وعبادة نصراللّه بين مريديه حاكت عبادة عبد الناصر في ما مضى، وربّما فاقتها. كما انتقد العظم العقل الديني المتحكّم بإدارة الصراع، وعقل “حزب اللّه”ديني بامتياز .
باختصار، كلّ ما حاجج صادق جلال العظم ضدّه، وفنده في الستينات، أعاد “حزب اللّه” إنتاجه لاحقًا، قبل الهزيمة وبعدها. لذلك أقول إن شيعة لبنان يحتاجون لقراءة “النقد الذاتي بعد الهزيمة”. أمّا كتاب العظم اللاحق “نقد الفكر الديني”، فيحتاج الجميع لقراءته، شيعة وغير شيعة، وهذه مسألة أخرى لمقال آخر.