بقلم بسام سنو – خاص بوابة بيروت

كاتب وناشط سياسي
لم تعد الأسئلة حول مستقبل العاصمة بيروت مجرّد نقاشات في الصالونات السياسية أو همسات في أروقة الإدارات، بل أصبحت مطلبًا ملحًّا يفرضه الواقع اليومي. فمع تزايد التحديات الإدارية والإنمائية والخدماتية، ومع تفاقم ازدواجية المعايير في التعاطي مع الأحياء والمناطق البيروتية، بات من الضروري إعادة النظر جذريًا في كيفية إدارة المدينة ومعالجة الخلل البنيوي الذي يضرب مؤسساتها منذ عقود.
ازدواجية المعايير… واقع لم يعد مقبولًا
تعيش بيروت اليوم حالة من الانقسام الخدماتي، حيث تنعم مناطق بأعلى درجات الرفاهية، فيما تُترك مناطق أخرى تحت خط الحرمان. مياه وكهرباء ونظافة وبنى تحتية وحدائق ونقل مشترك وإدارة مرور… خدماتٌ تتفاوت بشكل صارخ بين حي وآخر، وكأن العاصمة الواحدة مقسّمة ضمنيًا إلى بيروتين أو أكثر.
هذا الواقع غير المقبول لم يعد يحتمل التجميل أو التسويف. فالمواطن البيروتي، أكان في رأس النبع أو المنارة، في البسطة أو الصيفي، يستحق خدمات متساوية، ويُفترض أن يكون شريكًا كاملًا في حقه على مدينته، لا ضحية حسابات سياسية أو محاصصات ضيقة.
الحاجة إلى تغيير جذري في السلطة الإدارية
إن استمرار الوضع الحالي يُظهر بوضوح أن سلطة المحافظ، بصيغتها الحالية، لم تعد قادرة على تلبية حاجات العاصمة. فالتداخل بين صلاحيات المحافظ والبلدية، وغياب اللامركزية الإدارية، وتعطيل المشاريع داخل مجلس بلدية بيروت، كلها عوامل تساهم في الشلل المستمر.
من هنا، يصبح طرح نقل الصلاحيات التنفيذية من يد المحافظ إلى البلدية، وتوسيع سلطة الأخيرة، خطوة منطقية تعزز فعالية العمل الإنمائي وتسمح بمحاسبة شفافة مبنية على إرادة الناس مباشرة.
تقسيم بيروت إلى بلديتين أو ثلاث… خيار منطقي؟
مع الزيادة السكانية الكبيرة، وتعقّد النسيج الاجتماعي والعمراني، لم يعد منطق «البلدية الواحدة» قادرًا على إدارة العاصمة بأكملها بكفاءة.
إن اقتراح إنشاء بلديتين أو ثلاث لبيروت — شرط التنسيق المشترك بينهما ضمن مجلس أعلى للمدينة — قد يكون مدخلًا عمليًا لرفع مستوى الخدمات.
لماذا؟
لأن جباية كل منطقة ستذهب لتحسين واقعها مباشرة.
لأن الإدارة المحلية الصغيرة أكثر قدرة على التخطيط والتنفيذ.
لأن تقسيم الصلاحيات قد يحدّ من التسييس ويعزّز الشفافية.
لأن الأحياء التي تحتاج تدخلات عاجلة لن تبقى رهينة روتين إداري يشمل مدينة كاملة.
ضمّ المناطق المجاورة… ضرورة جغرافية وخدماتية
برغم أن بيروت إدارية محصورة ضمن حدود قديمة عمرها عقود، إلا أن واقع الحياة اليوم يتجاوز هذه الحدود. مناطق مثل الجناح، والغبيري، والدورة باتت عمليًا جزءًا من المشهد الحيوي لبيروت، وتوسيع النطاق البلدي ليشملها يبدو خيارًا منطقيًا يتناسب مع التمدد السكاني والعمراني.
فالمدينة ليست مجرد خط مرسوم على خريطة، بل هي كتلة حياة مترابطة يجب أن تشترك في التخطيط والتنمية والخدمات.
عدالة إنمائية… لا رفاهية سياسية
لا يمكن الاستمرار في نموذج يجعل منطقة من بيروت محرومة تمامًا وأخرى مكتملة الخدمات، بصرف النظر عن الجهة السياسية التي تديرها أو المبادرات الفردية التي تتولاها. إن بيروت مدينة واحدة، وأهلها متساوون، ولا يجوز أن يكون عرضهم للخدمات مرتبطًا بتوازنات سياسية أو بتنافس نفوذ.
إدارة المدينة يجب أن تنتقل من منطق المصالح والمؤسسات والفعاليات السياسية إلى منطق العدالة والإنصاف وحقوق الناس.
صوت الناس بات واضحًا: بيروت تستحق إدارة أفضل.
وإصلاح البلدية، وتحديث الصلاحيات، وإعادة هيكلة النظام الإداري، ليست ترفًا، بل ضرورة لإنقاذ العاصمة من الانهيار التدريجي.
المطلوب اليوم هو إرادة سياسية، ورؤية واضحة، وجرأة في اتخاذ القرارات…
فبيروت لن تنتظر أكثر، وسكانها يستحقون مدينة تُدار بعقل حديث لا بعقلية خمسينيات القرن الماضي.
فهل من يسمع؟