بقلم بسّام سنّو – خاص بوابة بيروت
@sinno_bassam

كاتب وناشط سياسي
أيها اللبناني… قبل أن نسأل كيف نبني الدولة، يجب أن نسأل: هل ما زلتَ تؤمن أنّ لك دولة تُبنى؟
فالشعب الذي خذلته المنظومة الحاكمة، وسُرقت ثقته مراراً، أصبح محقّاً في شكّه. لكنّ لبنان لا يستطيع أن ينهض إلا بك، ولا يمكن لدولة أن تتأسّس من دون ناس يؤمنون بها.
جيلان… وتجربتان متباينتان
ينقسم المجتمع اللبناني اليوم إلى جيلين رئيسيين: جيل ما قبل الحرب، الذي وُلد قبل 1991، عاش انهيار الدولة وشهد شرذمة مؤسساتها. وجيل ما بعد الحرب، الذي وُلد على أنقاض اتفاق لم يكتمل، وتربّى في ظل دولة مشوّهة ومنظومة متجذّرة.
لكن داخل هذين الجيلين، ينشقّ اللبنانيون إلى فئتين فكريتين: فئة تربّت على قيم علمانية ومدنية شبّت على مبدأ أن الدين لله، وأن الوطن لا يقوم على طائفة بل على دستور وقوانين ومؤسسات.
هؤلاء رأوا في لبنان إمكانية حقيقة لدولة مدنية، وتعرّفوا إليها عبر مدارسهم وجامعاتهم في الداخل والخارج.
وفئة أخرى تشكّلت داخل نظام طائفي متطرّف نظام جعل المواطن خادماً لطائفته وزعيمه قبل خدمته وطنه.
لا أتحدث هنا عن الدين بحدّ ذاته، بل عن آلية تجييش تُقنع الفرد بأن أمنه ومستقبله ووظيفته كلها مرهونة بولائه للزعيم.
فمن يرضى عنه الزعيم يُدلّل ويُرفَّع، ومن يُغضِبه يُهمّش ويُقصى—خصوصاً داخل القطاع العام.
هويتان تتصارعان فوق جسد الوطن
بين هذين النموذجين تولّد صراع عميق: هوية وطنية تريد دولة علمانية عادلة. وهوية طائفية تستمدّ خوفها وولاءها من رواية “الدولة تظلم طائفتك”.
ومع الزمن، أصبح المواطن نفسه ضحية زعيمه: فإن كان ولاؤه كاملاً مُنح وظيفة أو رتبة، وإن تزعزع ولاؤه سقط من دائرة المحظيين، لا لأنّه غير كفوء، بل لأنّه لا يخدم “المصلحة”.
هكذا تكرّست صناعة “الدويلات” داخل الدولة، وباتت السلطة منافساً لمؤسساتها، لا حامياً لها.
دولة تُبنى أم زعامة تُرسَّخ؟
لا يمكن أن تُبنى دولة على المحسوبيات. ولا يمكن أن تنهض مؤسسات تُدار كمتاجر سياسية توزَّع فيها المناصب وفق الولاء لا الكفاءة. ولذلك بات واضحاً: إمّا دولة، وإمّا زعامات… ولا يجتمعان.
اليوم، علينا أن نعترف بكل جرأة: إنّ جزءاً كبيراً ممن عُيّنوا في المراكز الحساسة لم يُختاروا لخدمة الوطن بل لخدمة أحزابهم.
ولاء الموظف ليس للقانون بل لزعيمه، وقيمته الوظيفية ترتفع أو تسقط بحسب قوّة هذا الزعيم أو ضعفِه.
فكيف تبنى دولة وجهازها التنفيذي نفسُه يدين بالولاء لغيرها؟
كيف نعيد بناء الدولة؟
إن إعادة بناء الدولة تبدأ من نقطة واحدة: إعادة بناء المواطن.
وإعادة بناء المواطن تعني: تحريره من ثقافة الزعامة، وأن يفهم أنّ مصلحته لا تأتي من مكتب زعيم بل من مؤسسة عادلة وقانون واضح.
إعادة النظر في كل التعيينات والإدارات
فلا إصلاح ممكناً مع جهاز إداري يشكّل امتداداً للأحزاب.
يجب إعادة تقييم المواقع وتثبيت قاعدة: الوظيفة للكفوء، لا للتابع.
إحياء ثقافة الدولة المدنية
الدولة ليست فكرة نظرية ولا شعاراً.
هي عقد اجتماعي: إن لم تؤمن به أنت، فكيف سيؤمن به ابنك؟
وقف الفوضى في إدارة الدولة
فوضى التعيينات، وفوضى التراتبية، وفوضى القرار.
الفوضى التي تُنتج دولة ضائعة وموظفاً خائفاً ومواطناً مغبوناً.
صراع أجيال… أم صراع وعي؟
البعض يظن أنّ الصراع اليوم هو بين جيل كبير وجيل صغير.
لكن الحقيقة أنّه صراع بين: جيل يؤمن بالدولة المدنية، وقد عاش نموذجها في الخارج أو حلم بتحققها هنا. وجيل آخر رُبيّ على الخضوع للزعيم لأنه لم يعرف بديلاً عنه. فالصراع الحقيقي ليس صراع أعمار… بل صراع وعي.
فهل من يسمع؟
يا مواطنين… الدولة لا تعود لأن السياسي يريد، بل لأن المواطن يرفض أن تُسرق منه مرة أخرى.
وإعادة البناء لا تبدأ في مجلس الوزراء، بل تبدأ في ذهنك أنت.
إنّ السؤال ليس: هل تستطيع الدولة أن تعود؟
بل: هل تريد أنت أن تعود؟ وهل تقبل أن تكون شريكاً في بنائها؟
وإن لم يكن الجواب اليوم… فمتى؟