بقلم بلال مهدي – خاص بوابة بيروت
@BilalMahdiii

رئيس التحرير
تحوّلت المخيمات الفلسطينية في لبنان، منذ عقود، إلى مساحات رمادية تتداخل فيها السياسات والأمنيات والضغوط، غير أنّ أخطر ما يشهده هذا الواقع اليوم يتمثل في إعادة توظيف بعض المخيمات كمستودعات للأجهزة العسكرية التابعة لـ«حزب الله»، وهو ما يعيد فتح ملف الأمان الجماعي للاجئين الفلسطينيين على نحو غير مسبوق. القضية تتجاوز إطار التحليل التقليدي، لأنّ توظيف بيئات مدنية مكتظة لتحقيق أهداف عسكرية يشكّل انحرافاً خطيراً يدفع ثمنه الأبرياء وحدهم.
يتحمّل اللاجئون الفلسطينيون داخل المخيمات أسوأ أشكال المعاناة. كل مترٍ منها مكتظ بالبشر، وكل يوم فيها معركة للبقاء. عندما تتحوّل هذه المساحات الضيقة إلى نقاط تخزين عتاد أو مواقع اجتماعات سرية، يصبح السكان رهائن لاجتماعات لا تخصّهم ولأسلحة لم يختاروها، وتتحول حياتهم إلى قنبلة موقوتة تنتظر الشرارة.
يشهد لبنان اليوم تصعيداً متنامياً في استهداف المواقع العسكرية التابعة لـ«حزب الله»، ما يجعل تحويل المخيمات إلى منصّات عسكرية خطأً كارثياً. المخيم حين يصبح هدفاً مشروعاً في حسابات الحرب، يتحوّل من مساحة إنسانية إلى ساحة قتال، ومن مجتمعٍ يعاني إلى مجتمعٍ يُعاقب مرتين، مرةً بالفقر واللجوء، ومرةً بتوظيفه غطاءً لأسلحة ليست منه ولا له.
يمثّل استهداف مخيم عين الحلوة مثالاً صارخاً على هذا التهديد. الهجوم الذي وقع وأسفر عن 13 ضحية، كشف فداحة الخطر. شهادات عديدة من داخل المخيم أكدت أن الموقع المستهدف كان يحتوي مخزناً لأسلحة نوعية جرى نقله صباح يوم القصف، ما يشير بوضوح إلى معرفة مسبقة بوجود نشاط عسكري غير مشروع وسط المدنيين. الأخطر أنّ الموقع نفسه كان يُستخدم لعقد اجتماعات تنظيمية، ما وضع حياة الآلاف في دائرة الخطر، وجعل من الاستهداف مسألة وقت لا أكثر.
لا يمكن تجاهل السؤال الجوهري، كيف تستمر ثقافة استخدام البيئات المدنية لتغطية الأنشطة العسكرية بعد كل ما عاناه لبنان وفلسطين خلال حرب الإسناد؟ التجربة أثبتت مراراً أن المدنيين يدفعون الكلفة الأكبر، بينما الأنظمة العسكرية تخرج من تحت الركام بخطابات النصر لا بخطط الحماية. المتغير الوحيد في كل هذه الحروب هو عدد الضحايا، أما الثابت فهو غياب الردع الحقيقي الذي يمنع الاستهداف أو يبدل المعادلة.
تجربة السنوات الأخيرة أكدت أن منطق تحويل الشوارع والمنازل والمخيمات إلى خطوط مواجهة لم يجلب سوى الدمار. الردع المفقود لا يمنح حماية، والاختباء خلف المدنيين لا يمنح شرعية. كل ما يمنحه هو المزيد من الدم والخراب والقبور المفتوحة.
يشكّل استخدام المخيمات الفلسطينية كمظلة عسكرية تعدياً على حقوق اللاجئين، وانتهاكاً لمبدأ حماية المدنيين، وإقحاماً لمجتمع هشّ في معادلات صراع لا يملك فيها صوتاً ولا قراراً. اللاجئون الذين هجّروا قسراً من فلسطين، لا يجوز أن يتحولوا وقوداً في صراعات جديدة داخل لبنان. أمن المخيمات يجب أن يعود إلى طبيعته، أمن إنساني، اجتماعي، مدني، لا أمن عسكري متخفٍّ تحت رايات وشعارات.
واجب الدولة اللبنانية وواجب الفصائل الفلسطينية وواجب المجتمع الدولي أن يرفض تحويل المخيمات إلى أهداف معلّقة في سماء الحرب. حماية اللاجئين لا تبدأ بالشعارات، بل تبدأ بوقف تحويل مساكنهم إلى مواقع عسكرية، وبإعادة الاعتبار لحقهم في الحياة، لا لحق الآخرين في استغلال حياتهم.
المرحلة المقبلة تتطلب دعوة صريحة، كفى تحويل المخيمات إلى مخازن ذخيرة. كفى توظيف الأبرياء دروعاً. كفى الإصرار على تكرار الأخطاء نفسها وانتظار نتائج مختلفة. لبنان عاجز عن الردع في هذه المرحلة، والمخيمات عاجزة عن احتمال المزيد من الدماء. كل من يصرّ على تخزين السلاح بين المدنيين يضع توقيعه على جريمة جديدة قبل أن تقع.
إنقاذ المخيمات يبدأ بإخراجها من دائرة الصراع، وإعادة تعريفها كمساحات للحياة لا ساحات للموت. عنوان واحد يجب أن يسود، حياة اللاجئين فوق كل سلاح، وكرامتهم فوق كل شعار.