حين تقف #بيروت أمام مرآتها… وتسأل : هل #القانون يُطبّق على الجميع؟

بقلم كوثر شيا – خاص بوابة بيروت
@kchaya

في ذلك المساء الطويل، كانت بيروت تشبه امرأة تقف عند عتبة بيتها، تُحدّق في شوارعها التي لم تعد تشبهها.

أطفال صغار ينتشرون عند الإشارات وفي الزوايا، يحملون على وجوههم عمرًا أكبر من سنواتهم.

يسهرون حتى ما بعد منتصف الليل، يطرقون النوافذ، يمدّون أيديهم الخفيفة إلى سيارات مُغلقة النوافذ، كأنّ الطفولة نُزعت منهم ووُضعت على الإسفلت.

وفي الخلفية، تمرّ أمام عينيها تفاصيل تُشبه هذا الوجع: أكياس نفايات تُرمى من الشرفات، إعلانات تُلصق على جدران المدارس، سيارات تعتدي على الأرصفة، غسيل يتدلّى على طرق عامّة وكأن الفوضى أصبحت جزءًا من العمارة.

مدينة تتنفس بصعوبة، ومواطنون يمشون فوق الوجع وكأنه لم يعد يؤلم.

وفي هذا المشهد المختلط من الإهمال الاجتماعي والفوضى المدنية، أعلنت بلدية بيروت، عبر فوج الحرس، مبادرة رسمية جديدة لتنظيم الفضاء العام: وثيقة مفصّلة، تحمل لائحة مخالفات واضحة وغرامات ملزمة، تهدف إلى وضع حدّ للفوضى في الأرصفة، الطرقات، الأملاك العامة، واجهات الأبنية، وكل ما يهدّد هوية العاصمة ونظافتها وحقّ سكانها في بيئة محترمة.

ليست ورقة عقاب… بل رسالة تقول إنّ بيروت تريد أن تستعيد مكانتها، وأنّ القانون يجب أن يعود جزءًا من الحياة اليومية، تمامًا كما الهواء والنور والمشي الآمن فوق الرصيف.

لكن يبقى السؤال الأكبر، السؤال الذي تصمت أمامه المدينة طويلًا: هل سيُطبّق هذا القانون على الجميع؟

على المواطن، على التاجر، على صاحب النفوذ، على المحل المدعوم، على المؤسسات، وعلى البلدية نفسها؟

أم سيكون قانونًا يُطبّق على من لا يملك ظهرًا… ويُغضّ النظر عن من يملك القوة؟

بيروت لا تنتظر نصوصًا جديدة…
بيروت تنتظر عدالة جديدة.

القانون يبدأ من التفاصيل… من الأشياء التي نظن أنها لا تُحسب

اللائحة التي أصدرها فوج الحرس ليست جمعًا للغرامات، بل محاولة لتعليق مرآة أمام الجميع: كم نلوّث؟ كم نتعدّى؟ وكم نشارك في الفوضى من دون أن ننتبه؟

ورغم وضوح البنود، إلا أن السؤال الذي لا يمكن تجاهله هو: هل سيقف القانون على قدمين متساويتين؟ أم على قدم واحدة؟

هنا يتحدد مصير هذه المبادرة. هنا يُعرف إن كانت شهادة حياة… أم شهادة وفاة للقانون.

القصة ليست عن نفايات… بل عن وعي وحق ومساواة

حين يرمي أحدهم كيس نفايات من نافذة بيته، هو لا يوسّخ الشارع فقط… بل يرسّخ ثقافة كاملة.

وحين يُلصق إعلان على جدار عام، لا يروّج لبضاعته فقط… بل يعلن امتلاكه للفضاء العام.

وحين يُحتل الرصيف ببضاعة أو سيارة أو مستوعب، لا يُعطّل الطريق فقط… بل يختصر الوطن في مساحة شخصية.

وهكذا تتسرب الفوضى إلى المدينة، كما تتسرب الرطوبة إلى جدار قديم… حتى ينهار.

القانون ليس ردعًا فقط… القانون تربية ومساواة وشرف عام

الصورة تحدث يوميًا: امرأة تُغرّم لأنها رمت نفايات، بينما متجر كبير يحتل الرصيف دون أن يقترب منه أحد. عامل بسيط يُحاسب، بينما ورشة ضخمة تغلق شارعًا كاملًا بلا محضر واحد.

هنا لا يتراجع القانون فقط… بل يتراجع الإيمان به.

ولذلك، فإنّ هذه اللائحة ليست أداة عقاب، بل امتحان دولة… امتحان شعب… امتحان ضمير.

بيروت تحتاج قانونًا عادلًا… يحمي الضعيف قبل أن يهادن القوي

بيروت تحتاج عدالة تقول: لا فرق بين مسؤول ومواطن، ولا بين محل كبير وبائع صغير، ولا بين شارع راقٍ وزقاق شعبي.

المخالفات ليست “مخالفات”، بل ثقافة يجب أن تتغيّر. سلوكيات تحتاج إلى إعادة تربية. عوَج يجب أن يُصلّح قبل أن يُهدم ما تبقّى.

والتغيير الحقيقي يبدأ حين يصبح كل واحد منا حارسًا للمدينة

الدولة مسؤولة، نعم، لكن الناس مسؤولون أيضًا. وأهل المدينة هم مرآتها.

حين نُنظّف أمام بابنا، حين لا نعتدي على الرصيف، حين نرفض لصق إعلان، حين نحمي حق طفل أن ينام في بيته بدل الشارع، حين نطالب بتطبيق القانون على الجميع، نحن نعيد بناء المدينة… من أصغر تفاصيلها.

وبيروت… رغم ألمها… تستحق الامتنان

ورغم أن المشهد موجع، ورغم أن الفوضى أثقلتها، ورغم أن أطفالها ينامون على الأرصفة بدل الوسائد، ما زالت بيروت تنهض كل يوم، وتمنح أهلها فرصة جديدة، كما لو أنها مدينة ترفض أن تستسلم.

بيروت لا تطلب الكثير، تطلب فقط أن نحترمها، أن نكون جزءًا من شفائها، أن نعيد إليها حقها الذي فقدته.

وحين نبدأ من هنا، حين ينهض الضمير قبل القانون، لن تحتاج بيروت إلى غرامات كثيرة… بل إلى محبّة كثيرة.

وعندها، ستخضر الأرصفة، وتستقيم الشوارع، وتعود المدينة لتبتسم، كأنها تقول لكل من أحبّها بصدق: أنا ما زلت هنا… وأنا قادرة أن أزهر من جديد، حين تزهرون أنتم في داخلكم أولًا.

اخترنا لك
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com