#الفساد… في #مكافحة الفساد!

بقلم د. أنطوان مسرّه

الشفافية والمحاسبة والمراقبة ومكافحة الفساد هي من المصطلحات الأكثر رواجًا في السياسة الشعبوية وفي برامج المدافعة عن القانون ودولة الحق. لكن الكثير من المصطلحات تفقد معناها بسبب الإسهال الكلامي وإطلاق شعارات واستغلال أداتي للقانون في سبيل الانتقام من منافس سياسي أو مهني. وهكذا يتم تعميم الضبابية في الحياة العامة ونشر أيديولوجيات في الإصلاح بدلاً من العمل الإصلاحي.

ينبع الفساد من استغلال نفوذ وإرساء شبكات نفوذ. تندرج بعض الأشكال الشعبوية في مكافحة الفساد في ضرب سياسيين بعضهم ببعض والتشهير بسياسيين وفتح ملفات انتقامًا من منافس وليس حرصًا على المال العام. وقد يندرج الانكباب على وضع تشريعات وإنشاء هيئة وطنية لمكافحة الفساد في إيهام الناس بالتغيير.

تتطلب ثقافة مكافحة الفساد، لا التشهير ولا فتح الملفات، بل التركيز على انعكاسات الفساد على المستهلكين والمستفيدين من خدمات عامة وعلى المواطنين في حياتهم اليومية. من يريد نشر ثقافة الشفافية والمساءلة يبيّن مفاعيل مناقصة شراء أدوية فاسدة على المستهلكين والمستفيدين وعلى حياة المواطنين اليومية. وخلف ستار مكافحة الفساد يتم زج القضاء بالذات في علاقات نفوذ وتواطؤ مع الذين يبتغون الانتقام من منافس.

حالة كارلوس غصن معبّرة في هذا السياق. هل يكون القضاء قضائيًا ام متواطئًا مع منافسين يفتحون ملفات لإرواء حقد وانتقام؟ يتوجب طبعًا من وسائل الإعلام وفي كل الحالات التقيد بمبدأ قرينة البراءة. لكن قضية كارلوس غصن تطرح مسألة فتح الملفات في إطار علاقات نفوذ ومصالح. يُخشى أن يكون مواطنون وملتزمون بالديمقراطية ضحية خدعة ومتواطئين في علاقات نفوذ.

تمارس أنظمة استبدادية سياسة فتح الملفات تجاه معارضين سبق أن وضعتهم هذه الأنظمة بالذات في مواقع مُتميزة لاستفادتهم الشخصية وشرط ولائهم المطلق لهذه الأنظمة. تُسجل يوميًا مخالفاتهم وانتهاكاتهم وسرقاتهم تحسبًا لفتح ملفاتهم إذا خرجوا عن الخضوع على أساس قاعدة: ارتكب لتخضع! من يفتح الملف ويتبارى في الحرص على المال العام ودولة الحق والشفافية والمحاسبة يهدف إلى إرواء حقد ومحاسبة مُتعاون خرج عن الخضوع. من الضروري طبعًا أن يدرك كل شخص يُمارس وظيفة أنه خاضع للمراقبة وأن يتحسّب لأي انحراف.

نقل إلي فؤاد بطرس قول أحد كبار المسؤولين السوريين له: “انت مثل البلور!” تجاه تساؤل فؤاد بطرس عن معنى هذا التشبيه، كان الجواب: “لم نكتشف في مسارك خطأ واحدًا”. لماذا هذا الاكتشاف؟ في سبيل الاتهام والإخضاع والابتزاز. يمكن الانتقام والإخضاع والابتزاز وإزاحة منافس بفتح ملف أي موظف مثالي من خلال تسجيل يومي لأي تفاهة إجرائية وعلى طريقة La Fontaine في “الطاعون” La peste حيث يُتهم الحمار لأنه أكل عشبًا من الحقل. كبار “المتهمين” في التاريخ، وبخاصة يسوع، قتلوا لحجج يسوقها أهل السلطة ومنافسون، أي أشخاص سيّئو النية.

هنا لب معضلة العدالة. ليست العدالة انتقامًا. حسن النيّة إطار حقوقي وأساس في ممارسة أي حق. من الخطورة الانسياق في اعتبار الذين يفتحون الملفات أنهم مدافعون عن المصلحة العامة. يفقد في هذه الحالة القضاء صفته القضائية ويتحول إلى أداة متواطئة مع حاقدين فاسدين في أعلى القمة للانتقام وليس لإحقاق الحق. العدالة المعصومة العينين تكون في هذه الحالة متواطئة ومشجّعة لعالم حيث يتحول القانون إلى أداة ويفتقر إلى صفته المعيارية.

ما يحصل من تشهير تجاه أشخاص ومؤسسات يناقض غالبًا ثقافة مكافحة الفساد وترسيخ الثقة بالمؤسسات. كيف تريد من مواطن مُكلف بالضريبة أن يسارع في تأدية واجباته وعدم السعي للهروب من الضريبة تجاه إدارة عامة تنشر غسيلها الوسخ وتطلب من المكلفين تأدية واجباتهم؟ يُنقل عن الرئيس فؤاد شهاب أنه بعد اكتشاف عملية نهب مع مشاركة موظف عالي الدرجة في الجمارك طالب بالملاحقة ولكن بدون التشهير بالمؤسسة حرصًا على مكانة مؤسسة الجمارك وثقة المواطنين. ليس بالضرورة الثقة بالأشخاص بل بالمؤسسة التي لا تُختزل بموظف مهما كان شأنه ومهما كانت خطورة ممارسته.

وهل تتوفر القاعدة الأساسية لمكافحة الفساد وهي مبدأ الفصل بين السلطات في التطبيق؟ إذا كانت الحكومات برلمانًا مصغرًا فلا فصل بين السلطات وبالتالي لا مراقبة برلمانية ولا محاسبة ولا معارضة خارج الحكم ويستحيل اتخاذ أي قرار في مجموعة غير متضامنة إلا من خلال تبادل منافع.

الملفات المقفلة؟ الملفات المفتوحة في علاقات نفوذ وحقد وانتقام؟ ليس هذا قانونًا وعدالة وشفافية ومحاسبة ومكافحة فساد وحوكمة رشيدة.

التوفيق بين السياسة كنفوذ وصراع على المصالح والموارد وتعبئة نزاعية وتنافس، والسياسة كإدارة للشأن العام res publica، هو ثمرة عمل ديمقراطي نضالي يومي. ليست الديمقراطية “نظامًا” سياسيًا، حيث أن كل نظام بدون استثناء يحتوي على بذور فساده وإفساده، بل منهجية وآليات في المشاركة والمراقبة والمحاسبة واليقظة المواطنية الدائمة لترشيد السياسة وإصلاحها وأنسنتها.

يرتبط الفساد السياسي والإداري بأربعة عوامل:

1. آلية السلطة السياسية وكيفية الوصول إليها والخروج منها.

2. مدى الحماية التي يتمتع بها المواطن تجاه السلطة السياسية والإدارة العامة في إطار دولة الحق.

3. منظومة القيم في المجتمع نتيجة تراكمات تاريخية وثقافية.

4. مشاكل الإدارة ذاتها، وما تنتجه من تلكؤ أو استرخاء.

من الوسائل المعتمدة في السنوات الأخيرة، خلف شعار مكافحة الفساد، تعددية إنشاء هيئات ناظمة ومجالس متخصصة في حين أن كل ذلك هو من صلاحية وزارات وإدارات عامة فاعلة في هذه الوزارات بدون زبائنية.

ما هي الحصيلة الشعاراتية في مكافحة الفساد والتشهير وضرب سياسيين بعضهم ببعض وتصريحات لا تترافق مع إجراءات يومية عملية ملموسة؟ الحصيلة الفاسدة: فقدان الثقة بالمؤسسات خلف ستار الحوكمة الرشيدة ودولة المؤسسات!

اخترنا لك
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com