خاص بوابة بيروت
في لبنان عام 2025 ما زال الضوء رفاهية لا خدمة عامة. ما زلنا نقيس النهار بعدد ساعات التغذية التي تصل من مؤسسة الكهرباء، ونقيس الليل على صوت المولدات الخاصة التي أصبحت الشريان الذي يبقي المنازل والمؤسسات على قيد الحياة.
في بلد يملك من الشمس ما يكفي لإضاءة نصف المنطقة، يواصل النظام الكهربائي انهياره، بينما يعتمد المواطن على مصادر بديلة لضمان الحد الأدنى من العيش الكريم. هذه المفارقة ليست أزمة تقنية فقط، بل صورة واضحة لغياب الدولة وعجزها عن بناء قطاع طاقة حديث ومتوازن.
الشعب اللبناني يرفض العيش في الظلام
لم ينتظر اللبنانيون حلولاً رسمية. انتشرت الألواح الشمسية على الأسطح، وتحولت المبادرات الفردية إلى خيار جماعي لإنقاذ البيوت من العتمة.
هذا التحول لم يكن مجرد حل كهربائي، بل انتقال في الوعي من موقع المتلقي إلى موقع الفاعل. أصبح الضوء قراراً شخصياً، وإعلاناً للاستقلال، وخطوة نحو استدامة حقيقية يخلقها المجتمع حين يغيب التخطيط الرسمي.
المولدات ما زالت تتحكم بالمشهد
على الرغم من انتشار الطاقة الشمسية، ما زالت المولدات الخاصة جزءاً أساسياً من حياة الناس. السبب لا يعود فقط إلى ضعف الشبكة الرسمية، بل أيضاً إلى عدم قدرة كثير من المواطنين على تركيب أنظمة شمسية، وإلى حاجة المؤسسات والمستشفيات لطاقة ثابتة.
بهذا الشكل أصبحت المولدات اقتصاداً موازياً يفرض شروطه وأسعاره ويخلق تبعية جديدة. ما يحدث اليوم هو نظام كهربائي مشترك بين دولة غائبة وكارتيل حاضر.
نيكولا تسلا والرؤية التي لم تُنفذ
من أكثر من قرن وضع نيكولا تسلا رؤية كان يمكن أن تغيّر وجه الحضارة. آمن بأن الطاقة حق إنساني وليست تجارة. رأى أن طاقة الكون موجودة في كل مكان ويمكن تحويلها إلى كهرباء متاحة للجميع. تصور عالماً تُنقل فيه الطاقة لاسلكياً وتصل إلى كل منزل دون كلفة.
لم يكن دافعه المال بل خدمة الإنسانية. أراد أن يحرر البشر من اعتمادهم على الوقود الأحفوري ومن سيطرة الشركات. لكن القوى الاقتصادية الكبرى لم تقبل برؤية تهدم فكرة الربح وتفتح الباب أمام طاقة مجانية. توقفت المشاريع، وتوقّف معه حلم كان يمكن أن ينقل العالم إلى مستوى جديد من الحرية.
قصة تسلا ليست مجرد تاريخ علمي. إنها تذكير بأن الأفكار الكبرى تحتاج أنظمة عادلة لتكبر، وأن الابتكار يحتاج بيئة سياسية تحترم العلم وتسمح له بالتحول إلى واقع.
لبنان مثال على أن الشعوب تسبق دولها
اليوم نشهد في لبنان ما يعكس روح تسلا بطريقة مختلفة. المواطنون يخلقون حلولهم من دون دعم الدولة. يتجهون إلى الشمس. يبنون شبكات صغيرة داخل الأحياء. يتشاركون التخزين والاستهلاك.
رغم الفوضى والانهيار، يظهر وعي بيئي جديد. وعي يدرك أن الاستدامة ليست شعاراً بل ضرورة. وأن الطاقة النظيفة ليست رفاهية بل حق أساسي لتحقيق صحة أفضل، وبيئة أنقى، واقتصاد أكثر توازناً.
هذه المحاولات الشعبية هي البذرة الأولى لرؤية طاقة مستقلة وأكثر عدلاً. لكنها لا تلغي حقيقة أن الدولة ما زالت بعيدة عن التخطيط الطويل الأمد، وعن بناء بنية تحتية حديثة، وعن فهم أن التنمية المستدامة هي أساس أي مجتمع صحي.
رسالة الأزمة
كل أزمة تحمل درساً. درس الكهرباء في لبنان هو أن المجتمع أقوى من العتمة، وأن غياب الدولة لا يعني توقف الحياة. لكنه أيضاً يؤكد أن غياب التخطيط الرسمي يعرقل أي مسار نحو الاستدامة الحقيقية.
لا يمكن بناء مستقبل صحي بيئياً واقتصادياً من دون دولة تعرف قيم الطاقة النظيفة، وتدرك أن حق المواطن في الكهرباء يشبه حقه في الماء والهواء والتعليم.
الناس فعلوا ما يستطيعون. أما الدولة فما زال أمامها الكثير لتفعله.
في النهاية، ما زال لبنان يعيش على ساعات قليلة من الكهرباء. ما زالت المولدات تفرض واقعها. وما زال المواطن يدفع من صحته ومن ماله ثمن غياب رؤية واضحة.
لكن نوراً جديداً بدأ يظهر. نور صنعه الناس بإصرارهم وقدرتهم على التكيّف والابتكار. نور يقول إن المستقبل يمكن أن يكون أفضل لو توحدت إرادة المجتمع مع إرادة دولة مسؤولة.
رؤية نيكولا تسلا لم تكن وهماً. كانت صورة لعالم أكثر عدلاً. واليوم يعود صداها في بلد يرفض الاستسلام للعتمة ويبحث عن طريقه نحو الاستدامة والعيش الصحي.