بقلم بسام سنو – خاص بوابة بيروت
@sinno_bassam

كاتب وناشط سياسي
التاريخ لا يتحرك عشوائياً، ولا تُكتب فصوله الكبرى من فراغ. فمن يقرأ مسار الحروب والصراعات الكبرى، يدرك أن وراء كل فعلٍ معلن ردّة فعلٍ مخططة، ووراء كل حدثٍ صادم مقدمةً لما هو أخطر وأوسع. فالتاريخ يشهد، دون مواربة، أن الحروب الكبرى لم تبدأ فجأة، بل سُبقت دائماً بذريعة، أو بحدثٍ أمني، أو بعملٍ إرهابي شكّل بوابة العبور نحو النار الكبرى.
وقد يكون الفعل في ظاهره عفوياً، لكنه في عمقه مفتعل، أو على الأقل نتيجة تسرب أمني محسوب، أُريد له أن يحدث في زمانٍ ومكانٍ محددين، ليُستثمر سياسياً وعسكرياً وإعلامياً.
التاريخ القريب ليس بعيداً عنا.
حرب العراق، على سبيل المثال، لم تبدأ بقرارٍ مباشر، بل فُتحت أبوابها بعد عملٍ إرهابي هزّ الولايات المتحدة، واستُخدم كذريعة لإعادة رسم خرائط المنطقة، وإسقاط أنظمة، وتغيير توازنات.
وحرب غزة الأخيرة لم تكن بمعزل عن هذا السياق، إذ جاء مدخلها عبر عملٍ أمني في تل أبيب، فتح الباب أمام حربٍ مفتوحة ما زالت تداعياتها تتوسع وتتشعب.
واليوم، ونحن نتابع العمل الإرهابي الذي وقع في مدينة سيدني الأسترالية، لا يمكننا أن نتعامل معه كحدثٍ عابر أو تفصيل أمني عادي. فهذا الهجوم، لا من حيث التوقيت ولا من حيث الموقع، يمكن فصله عن المشهد الإقليمي والدولي المتوتر.
فسيدني ليست مدينة عادية، وأستراليا ليست دولة هامشية. إنها قارة قائمة بذاتها، تقع على تماس جغرافي وسياسي مع دول آسيا، وقريبة من جنوب شرق آسيا، وجارة غير مباشرة للصين، وفاعل مهم في التوازنات الدولية. كما أنها دولة لها علاقات معقدة ومتداخلة مع القوى الكبرى، ومع إيران بشكل غير مباشر ضمن حسابات إقليمية أوسع.
اللافت في هذا الحدث ليس فقط وقوعه، بل سرعة توجيه الاتهام. فقد جاء الاتهام الصهيوني لإيران مباشراً، بذريعة الدعم أو التحريض من خلف الستار، خاصة أن غالبية الضحايا كانوا من اليهود. وكأن الاتهام كان جاهزاً قبل اكتمال التحقيق، وكأن الهدف لم يكن كشف الحقيقة بقدر ما كان تثبيت رواية سياسية تخدم مشروعاً أكبر.
هنا تبرز علامات الاستفهام. هل نحن أمام حدث أمني مستقل؟ أم أننا أمام حلقة جديدة في سلسلة صناعة الذرائع؟ وهل يُراد لهذا الحدث أن يكون بوابة لإشعال مواجهة أوسع، تُفتح من خارج الشرق الأوسط هذه المرة؟
إن استخدام أستراليا كمنصة أو مدخل لأي تصعيد ضد إيران ليس أمراً عابراً في الحسابات الجيوسياسية. فأستراليا، بحكم موقعها الجغرافي وتحالفاتها، قد تشكل جسراً لتمرير ردّة فعل دولية أوسع، خصوصاً في ظل الصراع المتصاعد مع الصين، ومحاولات إعادة رسم موازين القوى في آسيا.
إن فتح جبهة سياسية أو عسكرية من بوابة أستراليا يمنح مبرراً “نظيفاً” في الخطاب الغربي، بعيداً عن تعقيدات الشرق الأوسط، ويُسوق الصراع على أنه دفاع عن الأمن العالمي، لا حرب مصالح.
من هنا، لا يمكن استبعاد أن يكون هذا الحدث جزءاً من سيناريو أكبر، يهدف إلى تهيئة الرأي العام الدولي، وخلق إجماع سياسي وإعلامي، قد يُترجم لاحقاً إلى عمل عسكري أو حصار أشد، أو حتى ضربة كبرى تستهدف النظام الإيراني وحلفاءه.
وقد تكون نهاية السنة الميلادية الحالية محطة مفصلية، تُستخدم فيها هذه الأحداث كذرائع جاهزة، لشن حرب تُراد لها أن تكون “نهائية” في حسابات صناع القرار، ضربة يظنون أنها أزلية، تنهي محوراً كاملاً، وتعيد ترتيب المنطقة وفق مصالحهم.
لكن التاريخ نفسه الذي يشهد على صناعة الذرائع، يشهد أيضاً على فشل كثير من هذه المشاريع. فليس كل حرب تُفتح تُغلق كما خُطط لها، وليس كل ضربة تُنهي ما قبلها.
ويبقى السؤال مفتوحاً، هل نحن أمام حدثٍ عابر، أم أمام مفتاحٍ لحربٍ كبرى تُطبخ على نار هادئة؟
الأيام وحدها ستكشف الإجابة.