السيطرة العسكرية الإسرائيلية تمهد للهيمنة الاقتصادية والتجارية

بقلم زهير هواري

لم يؤد اشراك مفاوضيْن مدنييْن من الجانبين اللبناني والإسرائيلي إلى عضوية لجنة الميكانيزم الخماسية التي تضم كلا من أميركا وفرنسا وقوات اليونيفيل ولبنان وإسرائيل، إلى تخفيف حدة الهجمات الإسرائيلية على لبنان. ففي اليوم الذي كان يصل إلى اجتماع الناقورة السفير السابق سيمون كرم رئيسا للفريق اللبناني كانت مناطق عدة من الجنوب تشهد غارات عنيفة. وهي غارات تلاحقت خلال الأيام والأسابيع المنصرمة، ومن المتوقع أن تستمر حتى موعد الاجتماع اللاحق في الناقورة في 19 الشهر الجاري، وقد تتحول إلى حرب واسعة مع بداية العام المقبل كما تعلن المصادر الأمنية الاسرائيلية.

بالطبع يعبر هذا التصعيد عن الهوة الحاصلة بين الطرحيْن اللبناني والإسرائيلي، ففيما يصر لبنان على حصر النقاش في الانتقال إلى وقف اطلاق النار وتحقيق الانسحاب الإسرائيلي من المواقع الخمسة المعروفة (باتت سبعة)، واطلاق سراح الأسرى اللبنانيين وترسيم الحدود البرية، تمهيدا للشروع في إعادة اعمار القرى المدمرة وعودة أبنائها لها، طرحت إسرائيل مسألة إقامة علاقات اقتصادية بين الطرفين، إضافة إلى اللازمة المعروفة لجهة تسليم حزب الله لسلاحه جنوب وشمال الليطاني وتفكيك بنيته وتدمير ما تبقى من مستودعاته، ومداهمة المنازل التي تقول إنها تحوي مخازن عسكرية. وكل ذلك مقرون بالمزيد من التهديدات بتصعيد القصف الجوي، وتسريب معلومات في الصحافة العبرية مفادها أن الموجة الجديدة من القصف ستشمل مواقع الجيش اللبناني الذي لم يثبت قدراته على تنفيذ مهامه، ومؤسسات الدولة بما فيها القصر الجمهوري وغيره من مقار حكومية.

ويبدو أن هذا المنحى الهجومي ينطلق مما توصل إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لجهة ترجيح حصوله على العفو العام من جانب الرئيس الإسرائيلي إسحاق هيرتسوغ، بعد الطلب الذي تقدم به انطلاقا من الادعاء أن المثول المتكرر ومنذ عدة سنوات أمام المحكمة من شأنه أن يحد من قدرته على إدارة شؤون الحكم. وأن العفو سيمنحه الفرصة للمزيد من الدفاع عن مصالح إسرائيل وتحقيق منافع التفرغ لتحقيقها. ومع أن العفو لا يمنح في إسرائيل عادة إلا بعد انتهاء الإجراءات القانونية وإدانة المتهم، الا أن ذلك يحدث هذه المرة بفعل التدخل الأميركي الذي عبر عنه الرئيس ترمب في تصريحاته، وفي الرسالة التي بعث بها إلى هرتسوغ حتى قبل أن يتقدم محامو نتنياهو بطلب العفو عن اتهاماته بجرائم تتراوح بين الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة والفساد. ومثل هذا التدخل هو ما يمنحه فرصة إضافية لمتابعة سياساته الهجومية، مقرونة بتأكيد أنه لن يعتزل الحياة السياسية في حال حصوله على العفو الرئاسي في هذه السابقة بملابساتها.

وبالعودة إلى مسار التصعيد الذي يتولاه نتنياهو من خلال تحريك الجيش الإسرائيلي لمتابعة هجماته في كل من قطاع غزة ولبنان وسوريا، يمكن القول إن مواصلتها يعبر عن تجاهله لـ “وصايا” ترمب، كما سبق وذكرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية التي اشارت إلى أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترمب دعاه للانتقال من “التهديدات العسكرية” إلى “المسار الدبلوماسي” في إطار مساعٍ لمنع تدهورٍ أوسع في المنطقة.

الريفييرا الاميركية شرق المتوسط

يجب هنا التوقف عند ما يسمى المشاريع الاقتصادية التي يكثر الحديث عنها منذ عامين سواء في قطاع غزة أو الجنوب اللبناني والداخل السوري. فالمعروف أن الرئيس ترمب عندما أراد تسويق مشروع تدمير قطاع غزة ربطه بوعد تحويل القطاع إلى منطقة سياحية مزدهرة على الشاطيء الشرقي للبحر المتوسط، وهو ما سيجعل منه ما يشبه الريفييرا الفرنسية. بالطبع عطف ذلك على حديثه عن استثمارات ضخمة في القطاع بعد “تنظيفه ” من الشعب الفلسطيني بفوضاه السياسية والعمرانية من خلال تهجيره إلى أي مكان يقبل بلجوئه. والمقطع الأخير لم يتحقق مع رفض كل من الأردن ومصر فتح حدودهما واستقبال اللاجئين الفلسطينيين على اراضيهما. الآن وعلى عتبة الحديث عن المرحلة الثانية من خطة ترمب يتكرر المشهد من خلال اعلان الجيش الإسرائيلي أنه سيفتح معبر رفح للخروج الفلسطيني من القطاع، وهو ما ردت عليه مصر بالقول إنه إما أن يفتح دخولا وخروجا أو لا يفتح. وهو ما يدفع بالعديد من الدوائر الأميركية إلى بذل المساعي لعقد لقاء قمة بين نتنياهو والرئيس عبد الفتاح السيسي للاتفاق على توجه مشترك، وبحث الكثير من الأمور العالقة والمنافع الاقتصادية المتبادلة وفي مقدمها صفقات توريد الغاز إلى مصر وغيرها.

وبالانتقال إلى الجانب اللبناني نشير بداية إلى ما سبق وذكرته صحيفة يديعوت احرونوت عندما تحدثت عن منح الرئيس ترمب لبنان مهلةً تنتهي في 31 كانون الأول الحالي لتجريد “حزب الله” من سلاحه، مشيرةً إلى أنّه “دخل شخصيًا على خطّ الوساطة المباشرة لمنع تصعيد واسع في لبنان”. بالطبع البديل عن هذا التجريد هو تصعيد القتال وتوسيع ميدانه، علما أن الضباط الاميركيين في لجنة الميكانيزم يعترفون أنّ “الجيش اللّبنانيّ نجح تقريبًا في إخلاء جنوب لبنان من وجود حزب الله”، على حدّ تعبيرها.

يمكن التوقف عند مأزق الخيارات المتاحة على جبهتي كل من قطاع غزة ولبنان. فالمعروف أن إسرائيل تشترط لوقف القتال في القطاع والتوقف عن شن الغارات وغارات اغتيال المقاومين، والانتقال إلى المرحلة الثانية من خطة ترمب نزع سلاح حركة حماس وتفكيك جناحها العسكري كلياً وتهجير مقاتليها نحو الدولة أو الدول التي تقبل باستقبالهم. وعلى هذا المنوال يجري البحث عن قوة بديلة لملء فراغ الحركة في غزة والحزب في لبنان، ويكثر الحديث عن قوة دولية او متعددة الجنسيات، تشترط إسرائيل مثلا ألا تتبع السلطة الفلسطينية في رام الله، أو تضم وحدات من دول تصفها بأنها معادية لها.

ولا يختلف الوضع كثيرا في لبنان، خصوصا مع شروع قوات اليونيفيل في تخفيض عديدها وصدور قرار مجلس الأمن الأخير الذي حدد نهاية العام 2026 موعدا لختام مهامها. وهو ما يصب في مصلحة إسرائيل التي ترى في هذه القوة حائلا دون ممارسة سياساتها بحرية، ودون شاهد أممي على ممارساتها في جنوب لبنان. وهو ما يتكامل مع ما يقوم به ” الأهالي” الذين يدفعه بهم حزب الله للاعتداء على هذه القوة لدى قيامها بمهامها. لذلك يكثر الحديث عن قوة متعددة الجنسيات بإدارة ضباط اميركيين ومشاركة فرنسيين وإسرائيليين والجيش اللبناني.

واذا كان المعوَّل هو قيام القوات العسكرية النظامية اللبنانية بتحمل العبء الأساسي من المهام المستقبلية، فقد قدمت السياسة الإيرانية خدمة لا تقدر بثمن لكل من إسرائيل والولايات المتحدة عندما تحدثت عن أن 30 % من عديد الجيش اللبناني هم من عناصر حزب الله وهم يرتدون ثياب الجيش النظامي اللبناني نهارا وثياب الحزب مساء. وهو ما اعتبره الإسرائيليون دليلا إضافيا على استحالة الوثوق بالجيش اللبناني، الذي لم ينفذ المهام التي جرى تكليفه بها بموجب القرار 1701 بوقف الاعمال العدائية في تشرين الأول من العام 2024، بما فيه تفكيك بنية الحزب العسكرية جنوب وشمال الليطاني والعاصمة والضاحية والبقاع وتفتيش منازل الجنوبيين.

وتبعا لذلك تجوب السماء اللبنانية المسيَّرات والطائرات الإسرائيلية وصولا إلى شمال البلاد مرورا بالعاصمة والضاحية الجنوبية تبحث عن اهداف لقصفها. وحين تنتهي مما تعتبره أهدافا عسكرية لها يمكن أن تجد في أي منشأة مدنية هدفا لا بد من تدميره، مما يضع لبنان بأسره تحت رحمة تفوقها الحربي. خصوصا وأن المهمة الراهنة بالنسبة الى الإسرائيليين تتمثل باستكمال العمل على تفكيك ما تبقى من الجناح العسكري للحزب ببنيته القيادية وعناصره وأنصاره وبيئته الحاضنة في خطوة تتطابق الى حد بعيد مع ما يشهده قطاع غزة. أما هدف هذه العملية المزدوجة فمحدد، وقوامه ألا يبقى للحركة والحزب أي وجود عسكري او أمني، تمهيداً لاستئصال التنظيمين من السياستين الفلسطينية واللبنانية.

الاقتصاد في لبنان أيضا

على طاولة المفاوضات استحضر رئيس الوفد اللبناني المفاوض المطالب اللبنانية المعروفة لجهة الانسحاب ووقف الهجمات واطلاق الأسرى والشروع بإعمار المناطق المدمرة وعودة الأهالي إلى قراهم، بينما قام رئيس الوفد الإسرائيلي بطرح مسألة التعاون الاقتصادي بين لبنان وإسرائيل وتنفيذ الاتفاقات النفطية. وفي الوقت نفسه كانت التسريبات في الصحافة العبرية على قدم وساق تتحدث عن بناء أطر تعاون اقتصادي مع لبنان، له أهداف بعيدة المدى تتجاوز اتفاق وقف الاعمال العدائية، وترتبط بتصور تل أبيب لإعادة رسم مناطق النفوذ في المنطقة. صحيح أن لبنان لم يوافق على المفاوضات الاقتصادية، ويعمل على حصر التفاوض بالجانب العسكري المرتبط بوقف الاعتداءات والانسحاب من الأراضي المحتلة، ولكن إسرائيل تنطلق من تفوقها العسكري إلى فرض دور حاسم في اقتصادات المنطقة ولبنان في مقدمها، ولا سيما حيال موضوعي خطوط التجارة وامدادات النفط والغاز إلى أوروبا من شرقي المتوسط بدوله المتعددة (مصر، تركيا، قبرص، سوريا، لبنان وإسرائيل وقطاع غزة في فلسطين). وهو ما يضعها في خط تصادمي مع تركيا التي تطمح إلى تمدد نفوذها في سوريا والجانب التركي من قبرص ومياه المتوسط. كما إنه يصطدم بالطموح المصري الذي يتعرض لضربات متلاحقة من جنوبه وغربه وشرقه وشماله، ولا بد وأن يعمد إلى الدفاع عن نفسه إزاء ما يعانيه من فتح جبهات متعددة عليه، خصوصا وأن موقع مصر الاستراتيجي كرابط بين أوروبا وآسيا وافريقيا مهدد بما تتعرض وتعرضت له قناة السويس، وما شهده البحر الأحمر من تعديات حوثية على السفن التجارية ما عطل شريان مصر الحيوي. اذ المعروف أن المخططات التي يكثر الحديث عنها تشتمل على اتفاقات حول اعتماد طرق تجارية جديدة تطيح بالشريان المصري بين البحرين الأحمر والأبيض المتوسط، ما يحرم مصر نهائيا من نصف عائداتها من العملات الصعبة. المهم أن إسرائيل تعرب عن قلقها من الموقفين التركي والمصري، وكلتاهما تعبران عن استعدادهما لنشر قوات لهما في سوريا وغزة وجنوب لبنان ضمن أي قوة متعددة الجنسيات لاحقاً. وهو ما تعارضه إسرائيل بقوة من خلال تحركاتها العسكرية في المسارح المذكورة. من هنا يأتي الحضور السياسي والأمني المصري في لبنان وعقد مشاورات مكثفة مع المسؤولين اللبنانيين حول جملة أوضاع المنطقة وما يتعرض له لبنان من مخاطر محتملة.

اذن عبر منوعات من الضغط العسكري والأمني تطمح إسرائيل إلى البحث في العديد من الملفات التي يمكن من خلالها فتح الأبواب المغلقة التي تهدف من ورائها إلى وضع الجنوب “في جيبها”، من خلال جملة المشاريع الاقتصادية، وما يرتبط بها من اشراف تفصيلي على العائدين إليه، أي الداخلين والخارجين منه، إضافة الى حصر سكانه بالمؤتمنين من جانب المخابرات الاسرائيلية والتدقيق الأمني في باقي المقيمين، وبالتأكيد في اليد العاملة التي يمكن أن تدخل للعمل في مستوطنات الشمال كما عرفناه في السنوات الممتدة بين الأعوام 1982 – 2000. وهنا لا بد من إضافة أن السوق اللبناني ليس كبيرا ليغري السلطات الإسرائيلية بالهيمنة عليه، لكن يمكن اعتباره بوابة عبور نحو أسواق سوريا والعراق ومدخل إضافي نحو دول الخليج والمملكة العربية السعودية. ولا مشكلة اذا تحقق هذا الاختراق والمنطقة كدول وكيانات تعاني التمزق والشرذمة، سواء تحت مقولة حقوق وتحالف الأقليات أو غيرها من عناوين تقود إلى مزيد من التشظي، بينما إسرائيل تمارس هيمنتها برا وبحرا وجوا دون رادع أو عائق.

وما ينطبق على التجارة البينية ينطبق على حقول النفط والغاز الذي عادت إسرائيل للحديث عن اتفاقات مع لبنان حولها، بعد أن حصلت على المكاسب المعروفة في الترسيم البحري الذي أجاز لها استثمار حقل كاريش، بينما ظلت البلوكات اللبنانية تنتظر “الفرج”، وموافقة إسرائيل على الاستثمار فيها لقاء حصة وازنة من الأرباح، وبما يستكمل هيمنتها على تصدير نفط وغاز شرقي المتوسط إلى أوروبا، بعد تضييق الخناق الأميركي – الأوروبي على النفط والغاز الروسي وحجزه عن الوصول إلى أسواقه القريبة في أوروبا الغربية والشمالية.

إن ما يجري على الصعيد الاقتصادي يستكمل ما عاينه العالم على الصعيدين السياسي والأمني خلال العامين الماضيين، وهو يعزز الأخطار المحدقة بالمنطقة لجهة سرقة ثرواتها عبر قيام ثنائي النهب الأميركي – الاسرائيلي كشركات تعدين ونفط ومصارف وانشاءات وغيرها بمهام الاستثمار بعد انجاز الاكتساح العسكري. أليس معبرا أن كل مبعوثي الرئيس ترامب هم من فئة أصحاب الاستثمارات أصدقائه في ملاعب الغولف

اخترنا لك