ميثاقيّة التفرّغ في الجامعة اللبنانية غبّ الطلب

LF web

الميثاقية في لبنان ليست نصًا دستوريًا حرفيًا، بل ممارسة سياسية متطوّرة لحماية التوازن بين الطوائف بعد الحرب. بمرور الزمن، بعض القوى وضع لها قراءات تشغيلية تُستخدم أحيانًا لتعطيل أو فرض شروط سياسية. وذلك عبر تحوير“الفقرة «ي» من مقدمة الدستور التي تنصّ على أن “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.”

فيما “الميثاقية” تعني المشاركة الطائفية والسياسية في السلطة لضمان توازن بين الطوائف وفق الميثاق الوطني واتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهليّة عام 1989 وما زال يشكّل الإطار الدستوري غير المكتوب للنظام اللبناني.

يظهر بعضهم متسلّحًا بالميثاقيّة بينما ينتهج في ممارسته السياسية أساليب أو مواقف تُعدّ تجاوزًا لروح الميثاقية الأصلية حين استُخدمت لمصلحته السياسية أو مصلحة فريقه. وعنيت هنا بالتحديد الثنائي الشيعي “حركة أمل وحليفها الحزب”. فصارت الميثاقيّة تفسّر غبّ الطلب.

وعندما لا تخدم مصلحة الثنائي يعودون بنا إلى الأعراف الدّستوريّة ليخدموا مصالحهم الخاصّة. لكأنّ لبنان جمهوريّة علمانيّة وهم علمانيّون غير طائفيّين. يكفي أن نذكّر بأنّ كلّ محطّات مطالبتهم بتطبيق ما يتعلّق بدستور الطائف حول إلغاء الطائفيّة السياسيّة إنّما كانت لمطلب بحت طائفيٍّ.

أوّل تعدٍّ فاضحٍ على ميثاقيّة العيش معًا حقّقها دولة الرئيس برّي شخصيًّا يوم وقّع الاتّفاق الثلاثي المزعوم في عام 1985 بدمشق بين حركة أمل والاشتراكي والمقاتلين المسيحيّين لمحاولة إنهاء النزاع. فأعطى بموجبه النفوذ السوري أقصى صلاحيّات في الشأن الدّاخلي اللبناني. وكانت وقتذاك أول خطوة تحوّل فيها مفهوم الشراكة الوطنيّة إلى صفقة نفوذ إقليمي، وليس التوازن الداخلي الذي تسعى إليه الميثاقية.

وبعد نهاية الحرب وتطبيق اتفاق الطائف، توصّل النظام اللبناني إلى توزيع أكثر توازنًا للسلطة بين الطوائف. لكن الثنائي الشيعي “الحزب + حركة أمل” وضعا تفسيرًا سياسيًا لـ”الميثاقية” يمنحهما حق اعتراض أو تعطيل القرارات الكبرى إذا لم تتفق معها مواقفهما، معتبرين ذلك حماية للمشاركة في السلطة. وهذا ما استوجب تحوّلاً من الدّيمقراطيّة التوافقيّة إلى ديمقراطيّة تعطيليّة؛ فصار كلّ ما لا يتوافق مع استراتيجيّة الشيعيّة السياسيّة الحاكمة يعتبر بنظر هؤلاء غير ميثاقيّ.

فدأب على تعطيل حكومات لأشهر او سنوات بسبب تمسّكه بمواقف بحت طائفيّة من مثل تثبيت وزارة الماليّة كحقّ للطائفة الشيعيّة. وهذ ما كتبنا عنه مرارًا وتكرارًا تحت مسمّى التوقيع الثالث على المراسيم بعد رئيسي الجمهوريّة والحكومة إذ يأتي توقيع وزير الماليّة ليكون بذلك الفيتو الشيعي الرّسمي. فأضحت الميثاقيّة هنا احتكاريّة ولم تعد ضمانة للشراكة الوطنيّة.

هذه الشراكة التي ضربت عرض الحائط من قبل الثنائي نفسه من خلال الدّعوات المتتالية إلى جلسات حوار عقيمة لم تنتج سوى المزيد من ضرب المبادئ الدّستوريّة؛ وذلك لتثبيت المنصب واحتكاره بيد الثنائي الحاكم. هذا من دون إغفال مسألة تجاوز كلّ المهل القانونيّة إن في تشكيل الحكومات أو انتخاب رئيس الجمهوريّة أو تأجيل الاستحقاقات الانتخابيّة كافّة كلّها تحت ذريعة الميثاقيّة التي استحالت إلى تعطيليّة بدلا من أن تكون توافقيّة.

وما نعيشه في زمننا اليوم من مبدأ حصريّة السلاح بعد قرار الحكومة في جلستي الخامس والسابع من آب فُسِّرَ رفض الثنائي لقرارات هذه الجلسة أيضًا في سياق الميثاقيّة، على الرغم من أن اتفاق الطائف ينصّ على حصر السلاح بيد الدولة. وهذا ما يثير تساؤلات حول ما إذا كانت الميثاقية تحفظ الدولة أو تحمي مشروعًا سياسيًا طائفيًا.

ويأتي اليوم ملفّ التفرّغ في الجامعة اللبنانيّة الذي يعود ويطرح إشكاليّة الميثاقيّة. فيهبّ “الثنائيّون” ليدافعوا عمّا يعتبرونه حقًّا لتفرّغهم في الجامعة الوطنيّة، بغضّ النّظر عن تخمة العدد، بأنّ هذا الملفّ بالذات لا يخضع للمبدأ الميثاقي. ويجتهد بعض الدستوريّين مبرّرين بأنّ التفرّغ في الجامعة اللبنانية لا يخضع لمعايير وظائف الفئة الأولى، ضاربين عرض الحائط مبدأ المناصفة على حساب الوجود المسيحي والسّنّي والدّرزي. هكذا يحقّقون الميثاقيّة غبًّا لطلبهم في الهيمنة على الجامعة اللبنانيّة.

إن استمرّ هؤلاء كلّهم باجتهاداتهم الخنفشاريّة، فسيسقط هذا الملفّ برمّته. إمّا أن تكون المناصفة عماد الجامعة والوطن كلّه وإمّا لن يكون هنالك أيّ تفرّغ؛ وبالتّالي لا وطن يقوم على الكيديّة والاحتكار إلى حدّ الاحتقار. هذه التصرّفات غير الوطنيّة الت تترجم الميثاقيّة بالتمسّك بالسلاح غير الشرعي ومواجهة الأمم فداء لوليّ الأمّة، ستؤدّي إلى انهيار هذا العقد الاجتماعي برمّته. وعندها، فليكن إسقاط المنظومة المركزيّة من بوّابة عدم الميثاقيّة في الجامعة اللبنانيّة ولنطبّق دستورنا القائم على اللامركزيّة السياسيّة الموسّعة من بوّابة الجامعة اللبنانيّة.

اخترنا لك