الدور الأميركي في الشرق الأوسط : من الاحتواء إلى إدارة التفكك وإعادة هندسة المنطقة

بقلم زكي طه

في موازاة رهانات العديد من قادة الدول العربية على وجود اختلافات اميركية ـ اسرائيلية، وأن الولايات المتحدة، ستتدخل لوقف الحرب الاسرائيلية إرضاءً لها، يراهن المسؤولون اللبنانيون وأكثر قيادات أحزاب السلطة على دور إنقاذي للبنان، ليس من النفوذ الايراني وحسب إنما أيضاً من الاطماع والشروط الاسرئيلية.

وبالتزامن مع ذلك، يسود لدى قطاعات واسعة من النخب السياسية والفكرية في لبنان والعالم العربي، كما لدى شرائح اجتماعية أنهكتها الحروب والانهيارات، اعتقادٌ راسخ بأن الولايات المتحدة، بوصفها القوة الدولية المهيمنة، معنيّة باستقرار الشرق الأوسط وازدهار دوله، وبالحفاظ على خرائط الكيانات الوطنية وحدودها الموروثة منذ مرحلة سايكس ـ بيكو.

ويقوم هذا الاعتقاد على قراءة تبسيطية للسياسات الأميركية، تفترض أن واشنطن ترى في الدولة الوطنية المستقرة الإطار الأمثل لحماية مصالحها الاستراتيجية.

من الاحتواء إلى إدارة التفكك

وقد فات هؤلاء أنه ومع نهاية الحرب الباردة وانهيار الثنائية القطبية، دخلت السياسة الأميركية في الشرق الأوسط مرحلة جديدة. فبعد عقود من دعم أنظمة مركزية قوية، بغضّ النظر عن طابعها الاستبدادي، انتقلت واشنطن تدريجياً إلى مقاربة تقوم على تفكيك مراكز القوة التقليدية وإعادة تنظيم المجال السياسي والاجتماعي، بما يضمن ديمومة الهيمنة الأميركية ويحول دون نشوء قوى إقليمية قادرة على تحدّي المصالح الأميركية أو تهديد تفوق إسرائيل ودورها.

إن مراجعة مسارات العقود الأخيرة، في ضوء الوقائع السياسية والعسكرية والاجتماعية، تكشف كم أن رهانات البعض تفتقر إلى الأساس الواقعي.لأنها تتجاهل الوظيفة الفعلية لاستراتيجية الفوضى الخلاقة التي حكمت التدخلات الاميركية في المنطقة، والتي لم تُبنَ على دعم بناء الدول والمجتمعات المستقرة، بقدر ما قامت على إدارة الأزمات، وتفكيك البنى القائمة، والتحكم بمسارات التفكك بما يخدم مصالح الهيمنة ومنع تشكّل قوى إقليمية مستقلة.

من أزمات الحكم إلى أزمات الكيان والمجتمع

لقد شكّل غزو العراق عام 2003 نقطة انعطاف مركزية في هذا المسار. فالغزو الاميركي الذي جرى في اعقاب الحرب الايرانية ـ العراقية، لم يكتفِ بإسقاط نظام استبدادي، بل سارع إلى تدمير بُنى الدولة وتفكيك الجيش والادارة العامة بوصفها مؤسسات جامعة، لتسهيل إعاد بناء النظام السياسي على أسس طائفية وإثنية من خلال تحويل الهويات الفرعية إلى قواعد حكم وتوزيع للسلطة والثروة.

وأدّى هذا إلى صراعات أهلية دموية، وصعود دور الميليشيات كبديل عن الدولة. كما ساهم في انتاج واقع فدرالي مشوّه يقوم على الانقسام لا على الدولة المركزية. وبعد أكثر من عقدين، ومع انهيار قوى التوحيد، لا يزال العراق عاجزاً عن بناء دولة وطنية مستقرة، في ظل توازن هشّ بين قوى داخلية متصارعة ورعاة خارجيين.

لم يكن النموذج العراقي استثناءً، بل تحوّل إلى مرجع غير معلن لإدارة مسلسل أزمات بلدان المنطقة المتفجرة خلال العقود الأخيرة. وهي الأزمات التي لم تقتصر على إشكاليات الحكم أو تعثّر الانتقال السياسي، بل تحوّلت إلى أزمات كيان ودولة ومجتمع. وعليه فإن غالبية الدول العربية، وبدرجات متفاوتة، دخلت في مسارات تفكك بنيوي عميق، تجلّت في انهيار مؤسسات الدولة، وتصدّع الهويات الوطنية، وسيادة أشكال متنوعة من العنف الأهلي والمجتمعي.

لم تكن النزاعات الأهلية التي انفجرت في عدد من بلدان المنطقة مجرّد نتيجة مباشرة لـلانتفاضات العفوية، التي وُصٍفت بالربيع العربي، أو لانهيار الأنظمة الاستبدادية، بل كانت التعبير الأكثر عنفاً عن تراكم طويل من القمع السياسي، ومضاعفات حالة الاختناق جرّاء انسداد الأفق الاجتماعي والاقتصادي، وسط غياب آليات الاندماج الوطني. غير أن هذه النزاعات، وبدل أن تُواجَه بمقاربات دولية تهدف إلى إعادة بناء الدولة، جرى تدويلها واستغلالها وإطالة أمدها بقوة التدخل فيها، ونتج عن ذلك تحويل بلدانها ساحات صراع مفتوحة، تُدار توازناتها بما يخدم مصالح القوى الكبرى والإقليمية.

الفوضى الخلّاقة كإطار ناظم

لم تكن الفوضى الخلّاقة شعاراً عابراً في الخطاب الأميركي طوال العقود الماضية، بل تعبيراً مكثفاً عن رؤية ترى أن إعادة تشكيل المنطقة لا تمر عبر الإصلاح التدريجي، بل عبر هزّ البنى القائمة ودفعها نحو التفكك، بما يسمح بإعادة تركيبها وفق توازنات جديدة. ولذلك ترافقت هذه الرؤية مع الاستثمار في التناقضات الداخلية للمجتمعات، من خلال استغلال قضايا وإشكاليات الهويات (الطائفية، المذهبية، العرقية، القبلية) كروافع سياسية لتبرير تدخلاتها، على نحو ، يُسهّل لها إدارة النزاعات الأهلية بدل حسمها، والإبقاء عليها مفتوحة وقابلة للتحريك.

هكذا، لم تكن الحروب الأهلية التي اندلعت في عدد من البلدان العربية انفجارات داخلية معزولة، بل جرى احتواؤها وتوجيه مساراتها ضمن أفق إقليمي ودولي أوسع.

الاستبداد وفشل مشاريع التوحيد

لا يمكن فهم قابلية مجتمعات المنطقة للتفكك دون التوقف عند الدور البنيوي لأنظمة الاستبداد التي حكمت لعقود طويلة. وهي التي قامت على مصادرة الحياة السياسية، وقمع التعددية الاجتماعية والثقافية، وفرض وحدة قسرية بالقوة الأمنية لا بالاندماج الوطني. يضاف إلى ذلك ثبوت فشل المشاريع السياسية ذات الطابع التوحيدي، كالقومية العربية على تنوعها، في موازاة التجارب اليسارية الثورية. وجميعها استظل تحرير فلسطين شعاراً، أو مشروعاً سياسياً بوصفها إطاراً جامعاً.

نتج عن ذلك تفريغ المجتمعات من بدائل وطنية جامعة، وفراغاً سياسياً واجتماعياً ملأته الهويات ما دون الوطنية التي شكلت تربة خصبة لنفاذ الاستراتيجيات التفكيكية الخارجية، دولية كانت أو إقليمية، التي كانت تبحث عن ممرات ونقاط ارتكاز لنفوذها ومصالحها في آن. وهي التي بلغت ذروتها مع الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكثر من عامين، التي لم تزل تتوالى فصولاً على سائر جبهاتها المفتوحة بدعم اميركي مباشر، معلن وصريح.

والمحصلة هي ما انتهت إليه أوضاع بلدان المنطقة من انهيار دول وتفكك مجتمعات، وسط تآكل الهويات الوطنية وتكاثر سلطات الأمر الواقع. حدث ذلك على نحو متدرج، بنتيجة تحويل انتفاضات محقّة إلى حروب أهلية مدمّرة عبر القمع والعسكرة والتطييف، وإدارتها دولياً وإقليمياً وفق آليات تمنع الحسم وتكرّس التقسيم الواقعي.

وهم الرهان على واشنطن

في هذا المناخ، تتوالى الدعوات إلى الفدرالية أو تتكاثر المطالبات بالحكم الذاتي، التي تعبّر، من جهة، عن أزمات حقيقية في مسارات إعادة بناء الدولة المركزية، لكنها تتحوّل، بنتيجة غياب مشروع وطني جامع، إلى رايات وأدوات لإضفاء شرعية على التفكك، لا إلى حلول توحيدية أو ديمقراطية فعلية. فالمشكلة لا تكمن في شكل الدولة بقدر ما تكمن في غياب السياسة الوطنية الجامعة.

وفي هذا السياق يتكشف خواء الرهان المتكرر على الولايات المتحدة بوصفها ضامنًا للاستقرار، أو وسيطاً نزيهاً، جراء تجاهل حقيقة ثابتة قوامها أن واشنطن تتحرّك وفق مصالحها. وأن هذه المصالح تتقاطع عضوياً مع أمن إسرائيل وتفوّقها، لا مع حقوق شعوب بلدان المنطقة واستقرار مجتمعاتها. وفي المقابل، يتكرر لدى البعض خطاب المؤامرة لتبرئة الداخل من مسؤولياته، وهو الامر الذي لا يقل خطورة، لأنه يشكّل الوجه الآخر للعجز عن المراجعة النقدية.

في الختام، فإن الخروج من دوّامة التفكك لا يمر عبر انتظار تبدّل السياسات الأميركية، ولا عبر إنكار أثر التدخل الخارجي، بل عبر مراجعة جدية لتجارب الماضي، وإعادة بناء مشاريع سياسية وطنية جامعة، تربط بين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاندماج الوطني.

ومن دون ذلك، ستبقى المنطقة رهينة إدارة الخارج لمسارات التفكك التي لن نعثر على قعر أخير لها، ما يعني استمرار مسلسل فصول إعادة الهندسة القسرية لمجتمعاتنا وكياناتها الوطنية المنقسمة على ذاتها بانتظار المجهول.

الصدمات النفسية الناتجة عن الحرب تضاعف معاناة وعذابات الجنوبيين
مقالات مرتبطة

اخترنا لك