خاص بوابة بيروت

صحافي استقصائي وباحث في حقوق الانسان
لم تكن حقوق المرأة يومًا قضية منفصلة عن الإطار العام لحقوق الإنسان، بل شكّلت منذ نشأة الفكر القانوني والأخلاقي أحد أعمدته الأساسية. فالمرأة، في جوهرها، ليست “موضوع حماية” بل صاحبة حق، ولا تُمنح كرامتها من مؤسسة أو سلطة، بل تستمدها من إنسانيتها ذاتها.
هذا المبدأ لم يكن حكرًا على العصر الحديث، بل أقرّته الشرائع السماوية قبل أن تتبناه المواثيق الدولية، وأكدت عليه النظم القانونية المعاصرة بوصفه قاعدة آمرة لا يجوز تعطيلها أو الالتفاف عليها.
غير أن التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدها العالم خلال العقود الأخيرة، وبخاصة في دول أمريكا اللاتينية ومنها الأرجنتين، أفرزت ظاهرة مقلقة تمثلت في تحويل خطاب حقوق المرأة من منظومة قانونية أخلاقية إلى أداة أيديولوجية.
وقد أسهمت بعض المؤسسات النسوية، التي تدّعي العمل لحماية المرأة، في تكريس هذا الانحراف عبر احتكار تعريف الحقوق، وتهميش النساء المخالفات فكريًا أو اجتماعيًا، وتسييس معاناة المرأة ضمن صراعات حزبية أو ثقافية، في تناقض صارخ مع المرجعيات الدينية والالتزامات القانونية الدولية.
أنطلق في مقالي هذا من مقاربة قانونية نقدية، تقارن بين ما تقرّه الشرائع السماوية والمواثيق الدولية من حقوق للمرأة، وبين ما تمارسه بعض المؤسسات النسوية فعليًا، مع اتخاذ الأرجنتين نموذجًا تطبيقيًا يوضح هذا الخلل البنيوي.
حقوق المرأة في الإسلام
يؤسس الإسلام لحقوق المرأة على قاعدة التكريم الإلهي الشامل للإنسان، دون تمييز قائم على الجنس أو الدور الاجتماعي. فالمرأة في الشريعة الإسلامية شخص كامل الأهلية القانونية، لها ذمة مالية مستقلة، وحق التملك، وحق التعليم، وحق العمل، وحق المشاركة في الحياة العامة، وحقها في القبول والرفض في الزواج، كما حُرّم الاعتداء عليها بجميع أشكاله، واعتُبر ذلك من كبائر الظلم.
ولا ينظر الإسلام إلى المرأة بوصفها أداة أو كيانًا تابعًا، بل باعتبارها شريكة في الاستخلاف والمسؤولية، ويقوم مفهوم العدالة في الإسلام على صون الكرامة لا على فرض أنماط قسرية باسم الحماية أو الإصلاح. كما يرفض الإسلام الإكراه الفكري والاجتماعي، ويعتبر مصادرة إرادة المرأة انتهاكًا صريحًا لمقاصد الشريعة القائمة على العدل ورفع الضرر.
المرجع القرآني: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ سورة الإسراء، الآية 70
حقوق المرأة في المسيحية
ترتكز الرؤية المسيحية لحقوق المرأة على مبدأ المساواة الكاملة في الكرامة الإنسانية أمام الله. فالمرأة، وفق التعاليم الإنجيلية، ليست أقل قيمة من الرجل، بل تشاركه الإنسانية ذاتها، وتستمد كرامتها من كونها مخلوقة على صورة الله. وقد شددت المسيحية على المحبة والرحمة ورفض الظلم، واعتبرت أي امتهان للمرأة أو استغلال لها خروجًا عن جوهر الرسالة الأخلاقية.
وتؤكد المسيحية على حرية الضمير، وترفض الإكراه في المعتقد أو السلوك، ما يجعل أي ممارسة مؤسسية تُفرض على المرأة باسم “تحريرها” أو “إعادة تشكيلها” ممارسة تتناقض مع جوهر التعاليم الإنجيلية التي تقوم على الاختيار الحر والمسؤولية الأخلاقية.
المرجع الإنجيلي: «فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرًا وأنثى خلقهم» سفر التكوين، الإصحاح 1، الآية 27
حقوق المرأة في اليهودية
تعترف اليهودية بالمرأة ككيان قانوني وأخلاقي له مكانته وحقوقه، وتحمّل المجتمع مسؤولية حمايتها من الظلم والإيذاء. وتؤكد النصوص التوراتية على رفض اضطهاد الفئات الضعيفة، ومن بينها النساء، وعلى واجب إقامة العدل وصون الكرامة الإنسانية.
ورغم تعدد المدارس التفسيرية، يبقى المبدأ المركزي في اليهودية قائمًا على تحريم الظلم ووجوب الرحمة، ما يجعل أي استغلال سياسي أو تجاري لقضية المرأة خروجًا عن المقصد الديني الذي يضع الإنسان غاية لا وسيلة.
المرجع التوراتي: «لا تظلموا الأرملة ولا اليتيم» سفر الخروج، الإصحاح 22، الآية 22
حقوق المرأة في القانون الدولي والشرعة العالمية لحقوق الإنسان
أقرّ القانون الدولي لحقوق الإنسان بأن حقوق المرأة جزء لا يتجزأ من الحقوق الأساسية التي يتمتع بها جميع البشر. وقد نصّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على مبدأ المساواة في الكرامة والحقوق، وحرّم أي تمييز قائم على الجنس، وألزم الدول بحماية المرأة من جميع أشكال العنف، بما في ذلك العنف المؤسسي والرمزي.
وجاءت اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW) لتؤكد هذه المبادئ، ولتلزم الدول بإزالة العراقيل القانونية والاجتماعية التي تحول دون تمتع المرأة بحقوقها.
غير أن هذه الاتفاقية لا تجيز لأي جهة احتكار تفسير حقوق المرأة أو فرض نموذج ثقافي أو فكري واحد عليها، إذ إن جوهر القانون الدولي يقوم على التعددية واحترام الخصوصيات الثقافية والدينية ما دامت لا تنتهك الكرامة الإنسانية.
المرجع الدولي: المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)
المرأة بين الحماية القانونية والانحراف المؤسسي: قراءة قانونية وسياسية
تشكل هذه الإشكالية أحد أخطر التحديات المعاصرة التي تواجه حقوق المرأة.
ففي عدد من الدول، ومن بينها الأرجنتين، تحولت بعض المؤسسات النسوية من فاعل حقوقي مكمل لدور الدولة إلى فاعل سياسي أيديولوجي يمارس سلطة غير منتخبة، ويحتكر تمثيل المرأة والتحدث باسمها. وقد أدى هذا التحول إلى تسييس منظومة الحماية القانونية، وربط حقوق المرأة بأجندات حزبية أو تمويلية، بدل ربطها بالمبادئ الدستورية والالتزامات الدولية.
من الناحية القانونية، يشكل هذا الواقع خرقًا لمبدأ الحياد الذي تلتزم به الدولة، وانتهاكًا لحرية الرأي والضمير المكفولة في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
كما أن فرض خطاب نسوي أحادي، أو إقصاء النساء المخالفات فكريًا أو ثقافيًا، يمثل شكلًا من أشكال التمييز المعاكس، ويتعارض مع مبدأ عدم الإكراه الذي يُعد من القواعد الآمرة في القانون الدولي.
وفي هذا السياق، يبرز شكل خطير من الانحراف يتمثل في التحريض المؤسسي النسوي الممنهج ضد الرجال بوصفهم فئة جماعية، وهو تحريض يتجاوز حدود النقد المشروع ليصل إلى التعميم والعداء، بما يشكّل انتهاكًا صريحًا لمبدأ المساواة أمام القانون.
فالقانون الدولي لحقوق الإنسان، ولا سيما المادة السابعة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة السادسة والعشرون من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، يؤكدان أن جميع الأشخاص متساوون أمام القانون ويتمتعون بحمايته دون أي تمييز، سواء كان قائمًا على الجنس أو غيره.
كما أن اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW) لم تُقرّ يومًا تمييزًا معاكسًا أو خطاب كراهية جماعي، بل هدفت إلى إزالة الظلم دون استبداله بظلم آخر.
إن تحميل الرجال كجنس مسؤولية أفعال فردية أو جرائم معزولة يتعارض مع أبسط مبادئ العدالة الجنائية، التي تقوم على المسؤولية الفردية لا الجماعية، ويقوّض مبدأ سيادة القانون، إذ لا يمكن توجيه العداء الشامل أو العقاب الرمزي لفئة بأكملها بسبب فعل فرد، فالرجل والمرأة، على السواء، سواسية أمام القانون والعدالة، ولا تُبنى الحقوق على الكراهية بل على الإنصاف والمساواة.
أما من الناحية السياسية، فإن هذا الانحراف يؤدي إلى إضعاف الثقة المجتمعية بمنظومة حقوق المرأة، ويحوّل القضية من مسألة عدالة وإنصاف إلى ساحة استقطاب وصراع ثقافي.
كما يفتح الباب أمام استغلال معاناة النساء كأداة ضغط سياسي أو كوسيلة للحصول على التمويل الدولي، وهو ما يرقى إلى تسليع الحقوق وتحويل الضحية إلى مورد.
ويُعد هذا النمط من الممارسات شكلًا مستحدثًا من العنف المؤسسي، إذ لا يترك آثارًا جسدية مباشرة، لكنه يسلب المرأة حقها في الاختيار الحر، ويختزلها في صورة نمطية تخدم الخطاب السائد، في تعارض صريح مع روح القانون الدولي ومقاصد الشرائع السماوية.
في الختام … وفي إطار الالتزام بالمبادئ التي أرستها الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، وبالالتزامات الدستورية الوطنية التي تكرّس المساواة وعدم التمييز، تبرز الحاجة إلى مراجعة نقدية مسؤولة لدور الفاعلين غير الحكوميين العاملين في مجال حقوق المرأة.
إذ إن الارتقاء بحقوق المرأة يقتضي التمسك الصارم بمنظومة حقوق الإنسان بوصفها إطارًا كليًا غير قابل للتجزئة أو الانتقاء، وعدم الانزلاق نحو ممارسات أو خطابات قد تُسهم، ولو بصورة غير مقصودة، في إضعاف هذه الحقوق أو الإساءة إلى مشروعيتها الأخلاقية والقانونية.
ويُفهم من التجربة القانونية الدولية أن التاريخ الحقوقي لا يُقيّم النوايا المعلنة بقدر ما يُحاسب النتائج العملية، وأن أي انحراف عن مبادئ الكرامة الإنسانية والمساواة أمام القانون، أو أي توظيف سياسي أو أيديولوجي للحقوق، لا يُسجّل في ذاكرة العدالة بوصفه تقدمًا، بل بوصفه إخفاقًا يُحمّل أصحابه مسؤولية قانونية وأخلاقية.
فالشرعة العالمية لحقوق الإنسان قامت على مبدأ “حقوق الإنسان أولًا”، دون تقسيم أو تجزئة أو تمييز، ودون تحريض أو تسيس، وهو المبدأ ذاته الذي كرسته الدساتير الوطنية الحديثة بوصفه قاعدة عليا للنظام القانوني.
ومن هذا المنطلق، فإن حماية المرأة لا يمكن أن تقوم على إنتاج عنف رمزي أو مؤسسي جديد تحت أي مسمى، ولا على خطاب إقصائي أو تحريضي، بل على تعزيز ثقافة الحقوق الجامعة التي تضع الإنسان، امرأةً كان أم رجلًا أم طفلاً ، في صلب الحماية القانونية المتساوية.
فالقانون لا يعترف بعدالة انتقائية، ولا يحمي خطابًا يستبدل الظلم بظلم مضاد. لذلك أقول لكم … أوقفوا العنف المُسيَّس الذي يُمارس باسم النسوية ضد المرأة.