بقلم وليد حسين
عندما قصد والدي أبو واصف “مجلس الجنوب” لتلقّي شيكاً مصرفياً كتعويض عن ابنه الشهيد، تفاجأ بالمبلغ المكتوب على الشيك.
قلّبه بين يديه وعدّ الأصفار وخالَ أنّه لا يُحسن القراءة. استفسر من الموظف عن المبلغ وإذا كان الرقم دقيقاً فأكد له الموظف ما قرأه.
قال له اذهب وتأكد من مديرك لأنّ هناك خطأ ما حصل والرقم المكتوب غير منطقي بتاتاً.
ذهب الموظف وعاد. قال له المبلغ دقيق وأردف: “قالوا لي هلقد كان حقّ الشهيد بوقتها”.
أدرك أبو واصف عندها أنّ المقصود كان إهانته وإذلاله.
رفض تلقي الشيك، وقال للموظف متهكماً إنه بحاجة لسيارة كبيرة لنقل مبلغ كهذا خشية تعرضه للقتل. تمتم شاتماً وانصرف.
تعود هذه الحادثة إلى الذاكرة مجدداً، جرّاء الاعتراضات الحالية على تحويل الحكومة أموالاً إلى “مجلس الجنوب”.اعتراضات ذات اليمين وذات اليسار.
منها ما هو متّصل بذاكرة الجنوبيين عن مغارة “مجلس الجنوب” المتخوفين من انتهاء الأموال في “جيوب” المحاسيب والموالين حصراً للجهات الحزبية القيّمة على “المجلس”.
ومنها اعتراضات بخلفيّة شوفينيّة وعنصريّة حاقدة على حزب الله وتعتبر كل الجنوبيين جنوداً فيه.
وتبعًا لذلك، يريدون أن تتنصّل الدولة من مسؤولية التعويض على الجنوبيين خسارة أرزاقهم، وإعادة إعمار بيوتهم، طالما أن حزب الله خاض مغامرة الحرب.
كانت قيمة المبلغ الذي قرأه أبو واصف على الشيك المصرفي مئة ألف ليرة لبنانية: خمسة أصفار إلى جانب الرقم واحد.
كان ذلك في منتصف العام 2000 وبعد بضعة أشهر على تحرير الجنوب.
أتت هذه الواقعة بعد نحو 13 عاماً على استشهاد ابنه زياد خلال نصب كمين لدبابة إسرائيلية في خراج بلدة حولا، في مطلع عام 1987.
كان زياد شيوعياً، وعضواً في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، شارك في العلميات ضد قوات الاحتلال انطلاقاًمن بلدته حولا
بعد التحرير، تبلّغ أبو واصف أن تعويض أبنه الشهيد جاهز للتحصيل وما عليه إلا سحبه من “مجلس الجنوب”.
سبق وتقدم بطلب الحصول على التعويض في منتصف التسعينات، أي بعد توقف الحرب الأهلية، التي تبعها قرار من الدولة بالتعويض على عوائل الشهداء.
ونام طلبه في أدراج “مجلس الجنوب” أكثر من خمس سنوات إلى أن أفرج عنه القيّمون على المجلس.
قصد مجلس الجنوب وتلقى صدمة أين منها خبر استشهاد ولده المراهق، الذي لم يتبقّ من جسده إلا بضعة أشلاء جراء عصف الانفجار
كان أبو واصف شاعر الحزب الشيوعي، وذائع الصيت بأشعار المقاومة التي تُتلى في المهرجانات الحزبية.
وهو ابن بلدة حولا “الحمراء”، التي لم “ترقص دببها” للإقطاع، وصديق النائب السابق الراحل حبيب صادق.
سبق واعتقل في سجن الخيام، قبل استشهاد ابنه، وأُبعِد عن قريته وخسر كل زرقه لسبب بسيط: انخرط في الحزب الشيوعي منذ سني شبابه الأولى لبناء “وطن حرّ وشعب سعيد”.
عندما حضر الموظف وأبلغه ما قاله مديره الأعلى “هلقد كان حق الشهيد” أدرك أن المقصود بذلك الإهانة، ليس له شخصياً فحسب، بل لكل شهداء “الشيوعي” وباقي أقرانهم من يساريين، شيعة على الهوية.
كانت الرسالة واضحة بأن كل من يريد الاستفادة من تعويضات الدولة عليهم الخضوع للأحزاب التي توزّع الغنيمة، ويكون عبرة لكل أقرانه سواء حزبيين أو أفراداً مستقلين.
رفض أبو واصف الانصياع وكتب رسالة إلى رئيسي الجمهورية، والحكومة، ونشر الرواية في إحدى الصحف، لكن شيء لم يتبدّل، بل جاءه ردّ أحقر من الواقعة ومفاده أنّ ثمن الشهيد بحسب السعر الرسمي لصرف الدولار عام 1987، كان بحدود أربعين ألف ليرة لبنانية، وتكرّم عليه “مجلس الجنوب” بتدوير الرقم ليصبح مئة ألف ليرة، أي 66 دولاراً بالكمال والتمام.
بهذا المعنى تصبح مفهومة اعتراضات الشيعة المعارضين للثنائي الشيعي على تحويل أموال إعادة الإعمار إلى “مجلس الجنوب”، كي لا يكون مصيرها مثل سابقاتها بيد جهة توزّع موارد الدولة كمكرمة حزبية، لشراء الذمم.
أما الجهات التي ترفض تولّي الدولة مسؤولية إعادة الإعمار، على اعتبار أنه على حزب الله تحمّل المسؤولية، فهي تضاعف من مأساة الجنوبيين.
كما لو أن إعادة الإعمار ليست من مسؤولية الدولة، بل حزب الله.
ليس المقصود من استعادة هذه الواقعة استدعاء أي تبرير لرفض تحويل الحكومة الأموال لمجلس الجنوب وتحمل الدولة مسؤوليتها في إعادة إعمار الجنوب وعودة النازحين إلى قراهم.
فالدولة هي المسؤولة عن إعادة الإعمار، سواء عبر مجلس الجنوب أو أي مؤسسة أخرى، لإثبات سيادتها على جميع أراضيها. على أن يكون واضحاً للجنوبيين وسائر اللبنانيين كيفية إنفاق الأموال، وصرف الدولة مواردها باسمها، لا باسم أي حزب أو جهة أخرى.
بعد أكثر من عشر سنوات على انتهاء الحرب الأهلية كتب أبو واصف قصيدة يقول فيها: “قديش صرلنا مننتظر قديش، تيصير عنا دولة وجيش”.ودان فيها الفساد المستشري وتسلّم أمراء الحرب زمازم السلطة…
واليوم بات عمره يزيد على التسعين بسنتين ولم يتحقق حلمه بـ”الوطن الحرّ والشعب السعيد”، ولا تحققت أمنياته، أقله ببناء “الدولة” حتى بشعب تعيس.