خاص بوابة بيروت

كاتبة وناشطة سياسية
ليس عيد الميلاد في لبنان مجرد مناسبة دينية أو تاريخ على الروزنامة.
إنه حالة وجدانية، ووقفة ضمير، ورسالة عميقة تقول إن هذا الوطن، رغم كل الجراح، ما زال يعرف كيف يختار النور.
هذا العام، يحمل الميلاد معنى أعمق. بعد زيارة قداسة البابا، وبعد سنوات من التعب والانقسام والقلق، نشهد ولادة مختلفة: ولادة الرجاء من قلب الألم، ووحدة تُبنى على الاحترام لا على التشابه، وعلى المحبة لا على الإلغاء.
لبنان… أرض اللقاء لا الصراع
لبنان لم يكن يومًا وطن ديانة واحدة أو فكر واحد. هو مساحة مقدسة للقاء، حيث تعلّمت الأديان أن تعيش جنبًا إلى جنب دون أن تفقد جوهرها. هنا، لم تكن الاختلافات سببًا للعداء، بل فرصة للتكامل الإنساني.
هذا العام، كان لافتًا دور البلديات في مختلف المناطق اللبنانية، التي أعادت للفرح حضوره في الساحات والشوارع. الزينة لم تكن ترفًا، بل فعل إيمان بالحياة، ورسالة تقول لأطفالنا إن الفرح ما زال ممكنًا، وإن لبنان يستحق أن يُحتفل به.
ميلاد يجمع القلوب
عند المسيحيين، هو ميلاد السيد المسيح، رسالة المحبة المتجسدة، الإله الذي اختار أن يولد في بساطة ليذكّر العالم أن القوة الحقيقية في التواضع.
وتختلف الطقوس، لكن الروح واحدة: تراتيل الموارنة، صلوات الأرثوذكس، وغنى الطقس الملكي، كلها تنبع من نبع واحد هو المحبة.
أما عند المسلمين، فالسيد المسيح، النبي عيسى عليه السلام، حاضر في الإيمان والوجدان، مكرّم ومقدّس، ووالدته السيدة مريم مثال للطهارة والصبر. ورغم الاختلاف العقائدي، فإن الكثير من المسلمين في لبنان يشاركون إخوتهم المسيحيين فرحة العيد اجتماعيًا وإنسانيًا، في تعبير صادق عن الجيرة الحسنة والانتماء الوطني.
وفي الحكمة الدرزية، نجد تقديرًا عميقًا للسيد المسيح والسيدة مريم والأنبياء جميعًا، واحترامًا للمسيحية كمسار روحي يُجلّ ويُحترم وهو جزء من العقيدة لديهم بل كل القصة فهو العقل المدبر. ومنذ نشأة لبنان، شكّل الدروز والمسيحيون معًا نسيج هذا الوطن، تقاسموا الأرض والذاكرة والمسؤولية، وبنوا نموذجًا فريدًا في العيش المشترك.
الوحدة ليست إنكارًا للاختلاف
الوحدة في لبنان لا تعني الذوبان ولا التنازل عن الإيمان، بل الاعتراف بالآخر كما هو، واحترام حدوده الروحية والفكرية. نحن شعب تعلّم، عبر التجربة القاسية، أن الفصل بين العقيدة والعلاقة الإنسانية هو سر البقاء.
نعايد بعضنا البعض لا لأننا متشابهون، بل لأننا متجذرون في قيم إنسانية مشتركة: الرحمة، الكرامة، العائلة، والسلام.
الميلاد كطريق للشفاء
في زمن الانهيارات، يصبح الميلاد دعوة للشفاء الجماعي. دعوة لأن نرى بعضنا البعض بعيون القلب، لا بعيون الخوف. دعوة لأن نعيد بناء الثقة، حجرًا حجرًا، وكلمة كلمة.
لبنان اليوم لا يحتاج فقط إلى حلول سياسية أو اقتصادية، بل إلى الارتقاء إلى الوعي الحقيقي، وإلى مصالحة داخلية تعيد للإنسان قيمته وللوطن روحه.
في النهاية بركة الحضور في الأرض المقدسة.
في هذا اليوم، لا نحتفل بذكرى عابرة، بل نحتفل بحضور.
بحضور السيد المسيح في هذه الأرض التي باركها مروره، وجعل منها مساحة لقاء بين السماء والإنسان. لبنان، كما كل أرض عبرها، لم يكن مجرد جغرافيا، بل رسالة حيّة، ومسؤولية روحية، وأمانة في أعناق أبنائه.
اليوم، ونحن نحيي ميلاد السيد المسيح، لا نسأل بعضنا عن الدين أو الطائفة أو الطقس. لأن هذا الميلاد يتجاوز الانتماءات، ويدخل مباشرة إلى قلب الإنسان. نحن جميعًا، مهما اختلفت معتقداتنا وتقاليدنا، نحتاج إلى بركة هذه المحبة لنستمر، ونحتاج إلى نور هذه الرسالة لنصمد في وطنٍ أتعبته الأزمات لكنه لم يفقد قدسيته.
في لبنان، نعيش لأننا نؤمن.
ونؤمن لأننا نحب.
ونحب لأن هذه الأرض علمتنا أن البركة لا تُحتكر، بل تُشارك.
ميلاد المسيح اليوم هو تذكير لنا جميعًا أن البقاء ليس بالقوة، بل بالرحمة، وأن الخلاص يبدأ حين نختار أن نكون معًا، وأن نحمي بعضنا البعض، وأن نتمسك بالأمل كفعل يومي.
فلنستقبل هذا العيد بقلوب مفتوحة، طالبين البركة لهذا الوطن، لأهله، لأطفاله، ولمستقبله.
ولنقل معًا، من كل الإيمان والوجدان:
ميلادك بركة لنا جميعًا…
ومحبتك قوتنا لنحيا ونبقى في لبنان.