بقلم طلال خوجة

أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية
لا أنكر أنني سررت بصدور التعميم الوسيط رقم 748. ليس فقط لأنه رفع قليلاً المبلغ الشهري للمقهورين المستفيدين من التعميمين 158 و166، بل لأنه أقر أخيراً بفك الحجز عن استفادة الجمعيات من التعميمين المذكورين بعد 6 سنوات من انفجار الأزمة متعددة الأبعاد.
فهذه الأزمة كادت تطيح بالقطاع المصرفي الذي ضربه الفساد بعد أن اختلط على مدى سنوات حابل السياسة بنابل الاقتصاد والمال، على خلفية تراخي معظم مفاصل الدولة تحت ضربات الاحتلالات المختلفة.
وفي الواقع فإن هذا التراخي قد تحول إلى تداعٍ يقارب الانهيار بعد زلزال اغتيال الرئيس الحريري واختراق مواقع الدولة العميقة من قبل فائض القوة الحزب اللاهية وتوجيهها بما يخدم مصلحة رعاته الإيرانيين، تاركاً لحلفائه واتباعه من ضعاف الوطنية في الطبقة السياسية المافيوزية والفاسدة، فضيلة التناتش بالمغانم والتي طالت جيوب ومدخرات اللبنانيين، بالتواطؤ مع الكثير من اصحاب المصارف.
لطالما كررت أنني غير ذي اختصاص بالمواضيع المالية والنقدية والمصرفية، فمقاربتي لهذه القضايا كمواطن ناشط تنبع من وجع اللبنانيين الذين ذاقوا الأمرّين بالفعل، ما دفعهم لإطلاق انتفاضات متكررة عابرة للطوائف.
علماً أن هده الانتفاضات التي شكلت عامل توحيد للبنانيين وغلب عليها الطابع الشبابي، أثارت مخاوف أنصاف الآلهة القابضين على قارورة عفريت الجمر الطائفي.
في الواقع فإن حزب الله طبع اخصامه بطابعه، حتى إن بطشه الوحشي لمنتفضي 17 تشرين الأول/أكتوبر مر دون ردود فعل قوية تذكر. فحراك الغضب التشريني الواسع في سنة 2019 اخترق جميع الساحات والمناطق حتى بات ينذر بضعضعة القطيع عند كل راع من رعاة المجموعات الطائفية الذين يرون أن ميزان العيش المشترك هو في المحاصصات الطائفية التي تغذي مواقعهم السياسية، ضاربين عرض الحائط بالدستور روحاً ونصاً.
بعد تعثر انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر، ادار الحاكم سلامة الازمة/ الكارثة على خلفية واقع سياسي يتسم بسلطات يتحكم بها الثنائي المدجج وحليفهما العوني وبمعارضة مفككة مكونة من أحزاب وفئات سياسية يغلب عليها الطابع الطائفي والزبائني، علماً أن تطفيش أحد أركانها الرئيسيين أدى إلى تدهور غير مسبوق في القدرة الاعتراضية الرسمية. وكانت هذه المعارضة قد تألقت آبان الانتفاضة الآذارية السيادية قبل أن تعبث بأوراقها المصالح الفئوية والطائفية بعقلية قبائلية ما قبل دولتية موروثة من بواطن لبنانات صغيرة.
و مع الانكفاء المقصود عن أي معالجة في الحكم والحكومة والبرلمان، وفي ظل سيطرة إجمالية لفائض القوة على البلد، بدأ سيل التعاميم غير الدستورية ينهال على اللبنانيين وكأنها شر لا بد منه، خصوصاً بعد تراجع الحركة الاعتراضية الشعبية وتلكؤ وانكفاء وأحياناً تواطؤ الحركة الاعتراضية الرسمية.
و بالمناسبة فإن هذه التعاميم ما زالت تدير دفة الكارثة، رغم التحول السياسي والحكومي بعد انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية وتشكيل حكومة القاضي نواف سلام.
كيف لا أسرّ لموضوع الجمعيات ونحن لطالما ركزنا على الخطر الذي يتهدد هذه الجمعيات والمؤسسات والهيئات المدنية المستقلة والتي شكلت عصب المجتمع المدني الحيوي العابر للطوائف في لبنان. فهذه الجمعيات تعرضت لحملات تجنٍّ بعد أن لعبت دوراً كبيراً في انتفاضة 17 تشرين/أكتوبر المجيدة، وبعد أن كانت السباقة في تضميد الجروح وتخفيف الآلام الناتجة عن جريمة المرفأ المروعة، حيث غابت السلطة وملائكتها وحضرت شياطينها التي وزعت تهديداتها وارتكاباتها يميناً ويساراً.
ورغم الإيجابية النسبية في القرار 748 أرى ضرورة التحذير من مناورات بعض المصارف التي تصعب أو تؤخر التنفيذ أو تحاول التفلت من تبعاته كما جرت العادة في قرارات سابقة.
وعلى كل فإن ايجابية القرار الجديد لا تخفف كثيراً من الإحباط الاجمالي الذي يشعر به المودعون، من مشاريع الحلول المتناقضة، والتي ترنحت كثيراً بين مطارق المصارف وجماعاتها في مفاصل الدولة وسندان الحكومة وصندوق النقد، دون أن ننسى الأخطار الأمنية التي تتربص بالبلد.
وربما نكون بحاجة لاستخارة لنعرف فذلكات مشروع القانون الذي أعلن عناوينه العريضة رئيس الحكومة مؤخراً، والذي بدأت ردود الفعل عليه من كل حدب وصوب.
وإذ نؤكد على أن أي حل يجب أن يزاوج بين حفظ “ما تبقى من حقوق للمودعين” وإطلاق عجلة الاقتصاد المتداعي، فإننا نرى أن الحفاظ على القطاع المصرفي لا يجب أن يخضع لابتزاز جماعة المصارف التي قامرت بأموال المودعين طمعاً بالأرباح الفاحشة، فضلاً عن قيامها بارتكابات كثيرة يتقدمها “تهريب” أموال مساهميها وأموال النافذين والمافيات خلال الأزمة إلى الخارج وتشجيع تجارة الشيكات والصيرفة وفرض رسوم على المودعين بمسميات مختلفة والتهرب أحياناً من موجبات التعاميم. علما أن معظم المصارف عملت على الخداع وامتصاص بعض ودائع الليرة بالموافقة على تحويلها إلى دولار بعد 17/10/2019 بموافقة الحاكم سلامة الذي حرم أصحاب هذه الودائع لاحقاً من الاستفادة من التعميم 158 بابتداع نظرية التأهيل.
و هؤلاء يعاقبون الآن ثانية بمشروع القانون لأنهم الحلقة الأضعف، وجلهم من مدخري الشيخوخة ولم يرتكبوا أي خطأ عند التحويل الذي حصل معظمه في الأيام والأسابيع الأولى.
وفي سياق المحاسبة نرى أن قرار المدعي العام المالي في استدعاء مديري المصارف يجب أن يطال جميع الذين حولوا الأموال خلسة وأضعفوا السيولة، خصوصاً جماعة المافيات المحمية والمعرضين سياسياً الذين عمقوا الأزمة بتبديد وهدر وربما نهب المزيد من أموال المودعين بقرارات الدعم العشوائية المحمية من فائض القوة.
يبقى أن نشير إلى أن هناك أكثر من فجوة في المشهد السياسي والمالي، ما يجعل المواجهة في موضوع الفجوة المالية أو الانتظام المالي تكاد تكون دائرية.
فمع تقديرنا لحراك جمعيات المودعين ومجموعات مدنية حيوية أخرى، ومع تقديرنا لرغبة رئيس الحكومة وزملائه في إنجاز اختراق ما بعد 6 سنوات من انفجار الأزمة، إلا أن المشهدية السياسية تعاني من فجوة شعبية واسعة. فنحن لا نرى قوة ساسية وشعبية عابرة تتقدم لمواجهة الكارثة من منظور شامل يجمع بين مصلحة المودعين المستضعفين والمصلحة الوطنية في إنعاش الاقتصاد وإعادة الثقة المفقودة، فضلاً عن محاسبة المتسببين والمرتكبين مهما علا شأنهم.
و مع بدء استلال الجميع السكاكين نرجح أن يكون نفق استرداد الودائع ما زال طويلاً.