معركة بقاء «#اليونيفيل» في #جنوب_لبنان : أكثر من قوة حفظ سلام… ركيزة استقرار وأمان اجتماعي واقتصادي

بقلم بلال مهدي – خاص بوابة بيروت
@BilalMahdiii

تتقدّم معركة الإبقاء على الوجود الدولي في جنوب لبنان إلى واجهة النقاش السياسي والأمني، لا بوصفها تفصيلاً تقنياً مرتبطاً بآليات حفظ السلام فحسب، بل باعتبارها ركيزة استقرار مركّبة تمسّ الأمن، والاقتصاد الاجتماعي، والنسيج الإنساني للمنطقة الحدودية برمّتها.

جنوب لبنان، الذي عاش عقوداً من القلق والحروب والفراغات، لا ينظر إلى قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان «اليونيفيل» كقوة مراقبة عسكرية فقط، بل كجزء من معادلة توازن دقيقة، وكشريك يومي في الحياة العامة لأهله.

الدبلوماسية اللبنانية تدرك حساسية اللحظة. لذلك تحرّكت مبكراً لمنع أي فراغ دولي محتمل بعد انتهاء ولاية «اليونيفيل»، انطلاقاً من قناعة راسخة بأن وجود هذه القوات يشكّل عامل تهدئة ميدانياً، وسنداً عملياً للجيش اللبناني، وضمانة إضافية لتطبيق القرار “1701” ومنع الانزلاق نحو مواجهات غير محسوبة.

هذا الإدراك عبّر عنه بوضوح رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون في لقائه مع وزير الدفاع الإيطالي، حين شدّد على ترحيب لبنان باستمرار مشاركة إيطاليا ودول أوروبية أخرى في أي قوة دولية مقبلة، بالتوازي مع تأكيد رئيس الحكومة نواف سلام ضرورة إيجاد صيغة أممية أو شبه أممية تمنع الفراغ الأمني جنوباً.

غير أن أهمية «اليونيفيل» تتجاوز الحسابات العسكرية والسياسية البحتة. آلاف العائلات الجنوبية تعتمد بشكل مباشر أو غير مباشر على عمل أبنائها مع هذه القوات، سواء في مجالات الترجمة، والخدمات اللوجستية، والصيانة، والنقل، أو في شبكات الإمداد المحلية.

هذا الوجود خلق دورة اقتصادية ثابتة في قرى لطالما عانت من التهميش، ووفّر فرص عمل نادرة في مناطق حدودية محدودة الموارد. أي انسحاب مفاجئ أو غير مدروس لا يعني فقط تغييراً في المشهد الأمني، بل ضربة اجتماعية واقتصادية قاسية تطاول شريحة واسعة من السكان.

العلاقة بين «اليونيفيل» والأهالي المحليين شكّلت، على مدى السنوات، نموذجاً خاصاً في التفاعل الإنساني. الدوريات المشتركة، المشاريع الإنمائية الصغيرة، الدعم الطبي والتعليمي، والمبادرات الاجتماعية، كلها ساهمت في بناء جسور ثقة حقيقية.

هذه العلاقة لم تُصنع بقرارات سياسية، بل بتراكم يومي من الاحتكاك الإيجابي، والاحترام المتبادل، والشعور بأن الجنوب ليس مجرد خط تماس، بل مساحة حياة تستحق الاستقرار. من هنا، تحوّلت «اليونيفيل» في وعي كثيرين إلى رمز أمل وشراكة إنسانية، لا إلى قوة أجنبية مفروضة.

التحفّظ “الأميركي والإسرائيلي” على تمديد طويل الأمد للقوات الدولية، مقابل الحماسة الأوروبية للبقاء، يعكس تقاطع مصالح معقّد. دول أوروبا ترى في الجنوب اللبناني نقطة نفوذ سياسي وأمني في شرق المتوسط، وفي الوقت نفسه ساحة اختبار لدورها كفاعل استقراري لا عسكري فقط.

هذا التقاطع فتح الباب أمام نقاشات جدية حول صيغ بديلة، قوة أممية محدودة شبيهة بـ«أندوف»، أو قوة أوروبية متعددة الجنسيات خارج مظلة الأمم المتحدة. بيروت تميل بوضوح إلى الخيار الأول، لما يحمله من شرعية دولية، واستمرارية قانونية، وتخفيف للهواجس الداخلية.

اللافت أن كل الطروحات المطروحة تتقاطع عند نقطة أساسية، الدور المحوري للجيش اللبناني. فالمجتمع الدولي، بما فيه الأوروبيون، يعتبر أن حصر السلاح بيد الدولة وتعزيز قدرات الجيش كفيلان بجعله الجهة الوحيدة القادرة على الإمساك بالأرض والحدود.

من هنا، يُنظر إلى أي قوة دولية مقبلة على أنها ذات طابع رمزي داعم، لا بديل عن الدولة ولا منافس لها. هذا البعد الرمزي لا يقل أهمية عن البعد العملياتي، لأنه يكرّس التزاماً دولياً باستقرار لبنان، ويمنح الجنوب مظلة سياسية وأمنية في مرحلة انتقالية دقيقة.

الحديث عن مستقبل الجنوب لا يمكن اختزاله بمعادلات أمنية جامدة. الاستقرار الحقيقي يُبنى على توازن بين السيادة، والدعم الدولي، والبعد الإنساني والاجتماعي.

بقاء قوات دولية، سواء بصيغة «اليونيفيل» أو بصيغة معدّلة، يعني حماية هذا التوازن الهش، وصون شبكة الأمان التي نشأت بين الأهالي والمجتمع الدولي. أي مقاربة تتجاهل هذا البعد الإنساني ستبقى ناقصة، لأن الجنوب لم يعد فقط ساحة نزاع محتملة، بل مجتمعاً يبحث عن الاستمرارية، والعمل، والأمل، في ظل دولة تسعى أخيراً إلى تثبيت حضورها الكامل على حدودها.

اخترنا لك