مسار التاريخ الإلهي… وجنون البشر

بقلم الدكتور سايد حرقص

لم يكن تصريح رئيس هيئة التوجيه العقائدي – السياسي في الجيش الإيراني، عباس محمد حسني، مجرّد زلّة خطابية أو اجتهاد فردي، بل تعبيرًا صريحًا عن رؤية أيديولوجيّة راسخة داخل بنية النظام الإيراني، تقوم على فكرة خطيرة مفادها أنّ الإنسان قادرة على التدخّل في مسار التاريخ الإلهي وتسريعه. فالدعوة إلى “تسريع تعجيل ظهور المهدي” عبر “حلول عمليّة وبحوث تطبيقيّة” تنقل العقيدة من حيّز الإيمان الغيبي إلى حيّز الهندسة السياسيّة والعسكريّة.

هذا المنطق لا يقتصر على الخمينيّة وحدها، بل يلتقي مع الصهيونيّة الدينية،في نسختها البروتستانتيّة الإنجيليّة التي انتشرت في بريطانية في القرن التاسع عشر وامتدت الى أميركا في القرن العشرين. فهذه الأخيرة ترى في قيام دولة إسرائيل خطوة ضروريّة لتسريع عودة المسيح، وتعتبر أنّ تحقيق النبوءات التوراتيّة يتطلّب أفعالًا سياسيّة وعسكريّة ملموسة، ولو على حساب الشعوب والتاريخ والأخلاق.

هنا تتجلّى نقطة الالتقاء الجوهريّة بين المشروعين: كلاهما يحوّل الإيمان إلى أداة سلطة، ويحوّل الغيب إلى برنامج عمل. ففي الصهيونيّة، يُختزل الوعد الإلهي في دولة استعمارية توسّعية، وفي الخمينيّة يُختزل الانتظار المهدوي في مشروع عسكري–أمني عابر للحدود. والنتيجة واحدة: شرعنة العنف باسم السماء، وتعليق المآسي على شماعة “القدر المقدّس”.

الأخطر في هذا التفكير أنّه يلغي جوهر الإيمان نفسه. فالأديان، في عمقها الروحي، تقوم على التواضع أمام المشيئة الإلهيّة، لا على ادّعاء القدرة على إدارتها. أمّا حين تدّعي جماعة ما أنّها “تُمهّد” أو “تُسرّع” أو “تُعجّل” لحظة إلهيّة كبرى، فإنّها في الواقع تستبدل الله بذاتها، وتجعل من العقيدة غطاءً لمشاريع الهيمنة والنفوذ.

ليس صدفة، إذًا، أن تترافق هذه العقائد المنحرفة مع حروب مفتوحة، ودمار واسع، واستخفاف بحياة البشر. فحين يُختزل الإنسان في كونه “وسيلة” لتحقيق نبوءة، يصبح القتل فعلًا مبرَّرًا، والخراب مرحلة ضروريّة، والسلام مجرّد تأجيل غير مرغوب فيه.

من هنا، فإنّ نقد الخمينيّة لا ينفصل عن نقد الصهيونيّة، ليس من باب المساواة السياسيّة، بل من باب تفكيك العقليّة اللاهوتيّة–العدميّة التي ترى في الوعود الغيبيّة الدينيّة مادّة قابلة للتلاعب، وفي الحروب المدمّرة والتخطيط البشري وسائلَ لتسريع أو تغيير خطط الله. وحده الإيمان الذي يفصل بين المقدّس والسلطة، وبين الغيب والسلاح، يمكن أن يكون إيمانًا مُحرِّرًا، لا أداةَ قمعٍ ودمار.

اخترنا لك