عقل العويط يقدّم تحيّة إجلال لبيروت ويحاور إليوت في “آب أقسى الشّهور”

"الناشر الأسبوعي" الشارقة - العدد 54

بقلم حسن العارف

عقل العويط صوت مميّز في قصيدة النّثر اللبنانية والعربية بشكل عامّ. وقد تشربّت لغته بالشّعر حتّى أنّ خطاباته التي اعتاد أن يتأمّل فيها منذ سنواتٍ المأساة اللبنانية، والتي غالباً ما تجنح إلى لغة التفكير، تحتفظ هي أيضاً بطلاقة القصيدة وحيويتها. وهذا هو أيضاً ما يميّز كتابه الوجيز الصّادر حديثاً بعنوان “آب أقصى الشّهور يُشعل اللّيلك في الأرض الخراب” ( منشورات دار نلسن ببيروت )، الذي يُناوب بين المخاطبة الفكرية والغناء الشّعريّ.

جاء الكتاب مصحوباً برسوم شديدة التأثير والإيحاء لحسن الجوني. ومن العنوان حتّى نهاية هذا النّشيد أو هذه القصيدة-الكتاب، يخاطب الشّعر اللّبناني الشّاعر الإنجليزيّ توماس ستيرنر إليوت، صاحب “الأرض الخراب” أو “الأرض اليباب” حسب ترجماتها العربيّة، هذه القصيدة التي تُعدّ من أمّهات أشعار القرن العشرين.

كان إليوت قد كتب في مطلع القصيدة، كما هو معلوم، “أبريل هو أقصى الشهور”، فكتب الشّاعر اللبنانيّ: “آب أقصى الشّهور”. بهذا التحوير لاسم الشّهر، تسحبنا قصيدته إلى أحداث لبنان المأساويّة، ذلك الانفجار المريع الذي هزّ عاصمته في أغسطس 2019. إلى قساوة القيظ المعهودة في البلاد العربية جاء يومذاك هول الانفجارات، وكلّ ما يقف وراءها من إهمال متعمّد أو احتيال مشبوه، ليضيف لمسة من الرّعب تتحدّى التّعبير بالكلمات. بيد أنّ عقل العويط يندفع بشجاعة وفصاحة عاليتين، لمجابهة الموضوع. فتراه يحلّل، يسأل، يتفجّع برصانة، يغنّي بصحوٍ وكآبة، يحفّز على التجاوز، ويدعو إلى البناء. باختصار، إنّه ينهض على خير وجه برسالته بوصفه مواطناً يرفض السّقوط في عدم الاكتراث المعمّم، وبوصفه شاعراً يرفض الأبراج العاجيّة، ويقيم للكلمات مكانها في الشّأن العامّ.

بصورة شديدة الحيويّة ينوّع الشّاعر أدواته، فيستخدم لغة الخطاب والمُساءلة تارةً، ويعود إلى غنائه الجريح أطواراً. يخاطب إليوت :

“أبدأ بالنفي، خجلاً من رحابِ اليقين.

أنا الذي لا يملكُ من أسبابِ هذا اليقين إلّا الموت، أقولُ إنّ بيروتَ ليستْ بيروتَ، ولبنانَ ليس لبنان. وأقولُ على دوامِ القافية، كلاهما علّةُ الوجود.

افهمْني جيّداً يا تي. أس. إليوت، ولا تَحملِ الأمورَ وكأنَ المحملَ شخصيٌّ أو شوفينيّ.

أرضُكَ الخراب، أو أرضُكَ اليباب (سَمِّها ما شئتَ في العربيّة)، هي درّةُ الملاحمِ الشعريّة في العصرِ الحديث، لكنّ بيروتَ ليست لندن، ولبنان لنا، هنا والآن، ليس بريطانيا العظمى، ونيسان ليس هو أقسى الشّهور”.

ثمّ يدع صوت الشّعر يتحكّم بالخطاب، فجائعيّاً على رصانة، مندِّداً بكامل الصّحو :

“أنا لا أبكي، لكنّي أنفي.

النفيُ هو اليقينُ الوحيد، ونيسانُ ليس أقسى الشّهور.

ليسَ صحيحاً أنّ وجعَ بيروتَ اكتملَ، مثلما يكتملُ قمرٌ في قيظِ آب.

ما رأيتُ مدينةً ثكلى مثلها، يرتدي هواؤها ذاكَ القشيبَ مضمّخاً برائحةٍ تشفُّ عن ثوبِ العقاب. غيومُها عندما تنتشي بدموعِها، تفقدُ أجسامَها الهشّة، وسماؤها إلى حيث تهوي، كما تتهاوى جاذبيّةٌ في عدمٍ، والمشهدُ صمتُ ميت”.

وشيئاً فشيئاً يحوّل الشّاعر اللّبنانيّ مُخاطَبَه الكبير إلى نوعٍ من مُحاوِر أليف (يخاطبه أحياناً بالحرف الأوّل من اسمه الشخصيّ توماس: “يا تي”) يُشهّده على مأساة ضاربة ويعيد من خلال إنصاته المفترّض تسطير الحدث. وليُحسنَ القيام بذلك لا يترّدد -وحسناً فعلَ في رأينا المتواضع- عن إدخال لغة الواقع نفسه ومسميّاته الجديدة الموحشة في قلب معجمه الشعريّ :

“بودّي أنْ نتجالسَ على مرمى أكوامِ الألمنيومِ والتّنك، وأن نكونَ صحبةَ ما بقيَ من آثارِ نيتراتِ الأمونيوم.

هل سمعتَ يوماً بنيتراتِ الأمونيوم، يا سيّد إليوت ؟
\
وأيَّ خرابٍ تستحدثُهُ في ملاعبِ الموجِ وفي هيولى المكانِ المزدحم، فيكونَ المقالُ (القصيدة) مُراعِياً للمقامِ، لمقتضى الحال ؟

لا أعتقدُ أنّ الزمنَ كان تَفَتَّقَ عن عبقريّةٍ كهذه”.

على امتداد هذه القصيدة يستحضر الشّاعر تاريخ لبنان الحديث واهتزاز العلاقة بين الشرق والغرب وسوء التفاهم العميق الذي بقي يلغمها دوماً. كما يحلّل خصوصاً قصور الأدب أو اللّغة أمام واقع يظلّ أغرب من كلّ مخترَعات النّزعة الغرائبيّة، ما يجعل من خراب أرض إليوت لا أكثر من مجاز أدبيّ أمام خراب بيروت البالغ الشبه بمشهد قياميّ :

“أمّا الآن فلا أعتقدُ أنّ هناك ما يُرمّمُ الدروبَ الممزّقة، ولا الزوارقَ الممزّقة.

الموتى يملأون البرّ والبحر، ومَن نجا من الموت لبثَ يبحثُ عن مجاذيفَ أو ظلالٍ تنقلُهُ إلى ضرائحَ آمنة.

لكنّ المجاذيفَ والظلالَ كلَّها مهشّمةٌ ومرتعبة، أيّها الشّاعر.

كلُّها مهشّمةٌ ومرتعبة، يا تي.”

بهذا المزج بين خطابية مقصودة لذاتها وغنائية فجائعيّة وسخرية سوداء يشقّ عقل العويط بنجاحٍ وصدقٍ طريقاً إلى شعر مأساويّ حقيقيّ، وهل من مأساة أو تراجيديا بلا خطاب ؟

اخترنا لك