ثورة ١٧ تشرين وضرورة التصدي للفساد المزمن

مشروع ذاكرة بقلم حبيب البدوي

استاذ محاضر في الجامعة اللبنانية – حائز على درجة دكتوراه دولة في التاريخ الحديث والمعاصر

لبنان، الوطن الغالي المعروف بتاريخه الغني وحضارته العريقة وثقافته المتنوعة، يصارع آفة عفنة أثرت بعمق على مشهده السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ألا وهي الفساد، وهو المرض المستشري في كافة أنحاء الدولة ويصيب المجتمع.

إن الفساد في لبنان ليس ظاهرة حديثة، بل هو قضية متأصلة بعمق، ذات جذور تاريخية تمتد إلى عقود مضت. لقد تطور نظام تقاسم السلطة المذهبي في البلاد، والذي صمم في البداية للحفاظ على توازن دقيق بين طوائفها الدينية، بمرور الوقت إلى أرض خصبة لتربية دود الفساد وتعظم تغلغله في هيكلية المجتمع والدولة في لبنان. ففي حين أن هذا النظام الهش المعقد يعمل على استيعاب الجماعات الدينية المتنوعة في قوقعة تقاسم مصالح مذهبية، إلا أنه غالبا ما سمح للقادة السياسيين بتوطيد سلطتهم وتكديس الثروة على حساب الحكم الرشيد، وذلك عبر شراء الولاءات ضمن نطاقهم المذهبي، وبالتالي لبنان الوطن يدفع الثمن.

تتشابك الطائفية والمذهبية بعمق مع المشهد السياسي في لبنان. ولكل من الطوائف الدينية المختلفة في البلاد قادتها وأحزابها السياسية، مما يساهم في نظام معقد لتقاسم السلطة. وفي حين أن هذا النظام كان يهدف في البداية إلى استيعاب التنوع الديني، إلا أنه أدى إلى تأجيج الانقسامات وإعاقة الجهود المبذولة لمكافحة الفساد. وعلاوة على ذلك، جعل من الصعب المطالبة باستقالة الشخصيات الرئيسية داخل النظام، فكل منصب، سيادي أو تنفيذي (أو حتى هامشي)، يكون عادة محسوب على أتباع مذهب معين، وكشف أي تقصير من قبله، يتحول إلى استهداف للطائفة بنظر محازبيه.

بالانتقال سريعا إلى العام 2013، حينها شهد لبنان أول بوادر “الحراك” الاعتراضي الذي ظهر رداً على تمديد ولاية البرلمان. وقد برر رئيسه هذا التمديد يومها بالاستشهاد بظروف غير مناسبة لإجراء الانتخابات، لكنه أشعل استياء الرأي العام من ممارسات السلطة السياسية، والتي تتواطأ من خلالها معظم الأحزاب الطائفية للاستمرار في تقاسم نفوذها.

تلا ذلك، واحدة من أكثر الحركات تأثيرا وانتشارا في لبنان، وهي صرخة “طلعت ريحتكم”، والتي اكتسبت زخماً أكبر في عام 2015. كانت هذه التحركات ردا على أزمة النفايات التي تراكمت في الشوارع، لتزكم الأنوف وتنشر الأمراض وتسعد الجراذين. حينها بدت الحكومة غير قادرة على تقديم حل وسط المحاصصات المذهبية والتنفيعات الفردية والرشاوي المكشوفة. فكان شعار “طلعت ريحتكم” يشير مباشرة وبوضوح بأصابع الاتهام إلى من هم في السلطة جميعاً، ويحملهم المسؤولية عن فشلهم في معالجة الأزمة بشكل فعال. حصلت هذه الحركة الاحتجاجية على دعم واسع من المواطنين اللبنانيين بكافة انتماءاتهم، فهم بمختلف ولاءاتهم خاب أملهم من الفساد وعدم الكفاءة داخل الحكومة.

ومن ثم تجسدت ذروة الإحباط العام من النظام اللبناني في انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، حين رأى المتظاهرون احتجاجا على تردي الوضع الاقتصادي (بخاصة فرض ضريبة 6 دولارات على خدمة الواتساب المجانية بطبيعتها) في شخص رئيس الوزراء المسؤول الأول عن قرارات حكومته، مما جعل استقالته أحد المطالب الرئيسية. وفي حين اكتسبت حركة 17 تشرين الأول زخما ودعما واسعا، إلا أنها واجهت أيضا نصيبها من التحديات. لقد كان التنسيق داخل الحركة صعبا، حيث أدت الخلافات الداخلية إلى تعقيد الأمور. إن إحجام المحتجين عن تبني قيادة واضحة، مان نابعاً من الخوف من الاستهداف، وكذلك كشف المستور، مما أعاق قدرتها على مخاطبة الجمهور اللبناني بشكل فعال وقيادات جديدة لا طائفية.

من هنا، يمكن للانتخابات النزيهة أن تلعب دورا تحويليا في تغيير المشهد السياسي في لبنان. ومع ذلك، فإن العملية الانتخابية المثالية تواجه مجموعة من التحديات. فلقد أدى غياب قوائم الائتلاف، والتنوع المحدود بين الجنسين بين المرشحين، والصراعات بين القوى السياسية التقليدية، والدعوة إلى التدخل في الخصوصية الدينية، إلى تعقيد المشهد الانتخابي العام. بالإضافة إلى ذلك، ساهم الافتقار إلى الاقتراع العلمي والحاجة إلى توعية الناخبين في غموض العملية الانتخابية ومحدودية تمثيلها، فلم تكن نتيجة الاقتراع بحجم الآمال المعقودة.

لا يزال الفساد يشكل تحديا كبيرا ومتجذرا في لبنان، فهو منسوج في تركيبة نظام تقاسم السلطة السياسي والطائفي. وعلى الرغم من موجات الاحتجاجات والانتفاضات العامة، لا يزال الفساد مستشرياً ويتعاظم. من هنا ربما يمثل الشتات اللبناني في المهجر، بارقة أمل، بقدرته على التأثير في التغيير من الخارج، فالمغتربون اللبنانيون عادة يجمعهم الحنين إلى الوطن بعيداً عن غرائز بيئتهم الاجتماعية.

ومع هذا الخيار الواعد، فإن التصدي للفساد في لبنان يتطلب جهدا شاملا ومستداما من الجهات الفاعلة المحلية والدولية على حد سواء. وينبغي أن يرتكز هذا الجهد على التزام طويل الأجل بإصلاح الهيكل السياسي للبلد وتعزيز المساءلة والشفافية.

لنبني لبناننا الحلم علينا اقتلاع الفساد من جذوره، وبما أن الفساد يتغذى من الولاءات السياسية، وبالتالي المذهبية، فإن المشهد الوطني الجميل لمواطنين في 17 تشرين بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية كان يمثل بارقة أمل بوجه هذا العفن المزمن. وهذه الدعوة لمثالية وطنية يجب ألا تتصادم مع المعتقدات الدينية لجميع اللبنانيين، فكل فكر وعقيدة يرفض الفساد بطبعه، ومن هنا لا يجب أن يكون التحرك تدخلاً في خصوصيات الفئات اللبنانية، بل حملة عامة على الأخطاء المدمرة، والتي يتفق على علاجها كل عاقل.

وختاماً، عم بحلمك يا حلم يا لبنان …

اخترنا لك