ثورة بناء الوعي

مشروع ذاكرة بقلم رانيا غيث

محامية وناشطة سياسية

المعنى الحقيقي والراسخ لكلمة “ثورة” هي تغيير في نظام الحكم يصحبه تغيير عميق آخر في النظام الاقتصادي وفي البنية الاجتماعية وفي القيم الثقافية.

ربما لهذا السبب حرصت كتب التاريخ في بلادنا على استعمال كلمة “ثورة” لوصف تلك الاحداث التي ترتب عليها تغيرات مهمة اثرت بصورة او بأخرى في حاضر البلاد ومستقبلها , كي يبعثوا شعوراً بالفخر في نفوس النشئ تجاه اجدادهم سرعان ما يتبخر إذا تعرض لشمس الحقيقة الموضوعية والحاضر خير دليل على ما يحدث في فلسطين المحتلة ومحاولة عازمة لتسطير تاريخاً يشبه اجرام فاعليه وعزمهم لطمس الحقائق عن الإبادة الجماعية التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني الصامد الا ان الأجيال هي من ستكتب تاريخ فلسطين الحرة والثابتة أرضاً وشعباً وعروبة.

إذاً فليعرف من شاء الثورة كما شاء…

هذا ما حدث خلال ثورة 17 تشرين ستظل حدثاً فاصلاً ومهماً في تاريخ لبنان، اللبنانيون اثناء الثورة كان منهم من شارك فعلياً ومنهم من ساند معنوياً، إما لبعده عن لبنان او لعجزه عن المشاركة كما كان من رفض من ناحية الالتزام الحزبي او من باب الاعتياد على الوضع الراهن حتى لو كان مفروضاً على الفرد وضد مصلحته، أو من باب الخوف من المجهول او لأسباب أخرى كثيرة يمكن طرحها.

ان قوتها الكامنة ما زالت حاضرة في صدور وضمائر الأجيال الشابة بما يلهم المبادئ؛ رغم ان اساليب القمع وكم الافواه مازالت مستمرة لغاية تاريخه، وان دل على شئ ان المنظومة باكملها تستشعر خطر هز ثباتها، لذا تستمر في أساليب القمع بشتى الطرق. إلا أنه هناك جيل جديد يحمل طابعاً نقدياً في العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية وبات يشكل اداة ضغط خارج سيطرة النظام والأحزاب.

“17 تشرين ثورة بناء الوعي”

قد سبقها العديد من التحركات منذ اسقاط النظام الطائفي عام 2011 وما أظهرته من تباينات في الآراء والايديولوجيات للشباب والشابات إلا أنها كانت مرحلة مهمة وهي محاولة تكوين فكر معارض مستقل بدأ يلوح في الأفق، رغم ان البعض يعتبر ان هذه التحركات النوعية والمحدودة خلال السنوات المتعاقبة 2013 2014 و2015 لم تكن مهمة واساسية لإحداث تأثير على الواقع اللبناني، إلا أنها كانت عملية تراكمية لبناء جدار فاصل بين هاجس الحروب والتاريخ اللبناني المثقل بالأحزاب الطائفية والمسيطر على الكثير من شعبه وثقافته، وجيل لا بأس به أصبح يقرأ ويحلل ويرفض مصير ابائه واجداده وهذه ما سميت، مرحلة بناء الوعي.

هل أخفقت ثورة لبنان ؟ فعلاً كما قيل ؟

من كان قادراً على خلق وعي ما استمر متقداً، يعتبر النزول الى الشارع أحد أشكاله المتعددة، ومن البديهي ان تتطور استراتيجيات الاحتجاج لتأخذ اشكالاً أخرى لتحقيق مبادئ الثورة، وأحد أشكالها كانت انتخابات 2022 أحدثت ارباكاً جدياً للأحزاب السياسية التي كانت مسيطرة على مدى أربعون عاماً واكثر ومن دون منازع على كافة مقاعد البرلمان اللبناني مما جعلها تعيد حساباتها واستراتيجياتها ترقباً وتحسباً من تحقيق نتائج لصالح لوائح المستقلين. رغم ان هناك العديد من الانتقادات لأداء مجموعات المعارضة ودراسة أسباب عدم تحقيق ربح مضاعف في صناديق الاقتراع بمعزل عن القانون والمال الانتخابي.

دفع تعدد المظاهر السلبية اقتصادياً واجتماعياً التي شهدها لبنان عقب 17 تشرين الاول، الكثيرين الى الاعتقاد بأن هذه الثورة في مجملها كانت نتائجها سلبية على الاقتصاد والمجتمع اللبناني الا ان هذا التقييم لا يخدم غير السلطة والمستفيدين منها.

فان العديد من النتائج السلبية التي تحملها بعض المؤشرات الاقتصادية لفترة ما بعد الثورة لم تكن الا امتداداً لما كان سائداً قبل الثورة وبدى نتاجاً طبيعياً للسياسات الاقتصادية والمالية والفساد المستشري في بلدنا لبنان بالإضافة الى الظروف والأحداث المتعاقبة التي لم تنقطع طوال هذه الفترة.

في الختام أقول إن إرادة الشعب اللبناني خرجت ربما للعالم كله ليعلم ان لبنان به شعب قادر ان أراد على تغيير مصيره واستعادة حقوقه وبناء دولة القانون والمؤسسات، وستبقى مطالب اللبنانيين أساساً لتكريس مبادئ 17 تشرين، على ان نعي عمق ما حدث، مكامن اخفاقاتنا وقوتنا وأهميته للنهوض وتحمل المسؤولية الوطنية : مجموعات وأحزاب ومستقلين ناشطين وان نتعالى عن خلافاتنا و اختلافاتنا ونسعى لعدم البقاء في حلقة مفرغة من التفاؤل الوقتي او الاحباطات المؤلمة والمستمرة. وبناء مرحلة جديدة لا ان نكتفي بها بالذكرى السنوية والاشارة الى ذلك الحدث التاريخي، والظروف الاقتصادية والسياسية السيئة مازالت قائمة وفاعلة وتوفر مناخاً لانتفاضات شعبية محتملة في القريب العاجل.

اخترنا لك