في الذكرى الـ19 للانسحاب #السوري : محطات وأحداث من الدخول حتى الجلاء

بقلم اسكندر خشاشو – @AlexKhachachou

في مثل هذه الأيام قبل 19 سنة، أُقفلت بوابة الحدود اللبنانية ـ السورية وراء آخر الآليات العسكرية السورية “المقيمة” في لبنان، وأخلت القوات السورية ثكناتها، وفكّكت حواجزها، بعد هيمنة وقبضة حديدية استمرت نحو 30 عاماً.

فرضت سوريا نفوذها على لبنان خلال الحرب الأهلية التي بدأت سنة 1975.

في 1 تموز 1976، أرسل الرئيس السوري حافظ الأسد قواته إلى لبنان رسميًا تحت شعار وضع حدّ لطموحات منظمة التحرير الفلسطينية والفلسطينيين الراغبين في تشكيل شبه دولة، وفرض وقف إطلاق نار نسبيّ.

بحلول تشرين الأول 1976، ألحقت سوريا ضررًا كبيرًا بقوة اليساريين وحلفائهم الفلسطينيين، لكنّها اضطرّت في اجتماع للجامعة العربية إلى قبول وقف إطلاق النار. يومها، قرّر وزراء الجامعة توسيع قوة حفظ السلام العربية الصغيرة الموجودة في لبنان، فنمت لتصبح قوة ردع عربية كبيرة تتألّف بالكامل تقريبًا من القوات السورية، فأضفيت “الشرعية العربية” على التدخّل العسكريّ السوريّ في لبنان، الذي تلقّى إعانات من الجامعة العربية لأنشطته.

وصل عديد هذه القوة في الأصل إلى 30 ألف رجل، من بينهم 25 ألف جندي سوري.

وبعد معارك في صوفر وصيدا، بسطت سوريا سلطتها على كلّ لبنان حتى سنة 1977، قبل أن تنتفض الأحزاب المسيحية أو ما يعرف بالجبهة اللبنانية، وتُخرج السوريين من الأشرفية والمتن وسائر المناطق التي عُرفت في ما بعد باسم “المنطقة الشرقية”.

في آذار 1978، غزت إسرائيل جزءًا من جنوب لبنان بعد عملية لمنظمة التحرير الفلسطينية، أدت إلى قتل 37 إسرائيليًا في حافلة في تل أبيب؛ وكانت قاعدة انطلاق أولئك المقاتلين من جنوب لبنان.

خاضت “الجبهة اللبنانية” عدة حروب مع القوات السوريّة، وقصفت الأشرفية لمدة مئة يوم متتالية كما حوصرت زحلة لمدة 90 يوماً، ممّا تسبّب بسقوط العديد من القتلى والجرحى وبأضرار مادية كبيرة.

وفي سنة 1981 دخل الجيش السوري إلى طرابلس في شمال لبنان عندما حاولت ميليشيا إسلامية إقامة إمارة هناك. ودعمت سوريا أحزاب الجبهة الوطنية في حرب الجبل وشرق صيدا، ليحلّ الرئيس أمين الجميل في حزيران 1983 قوة الردع العربية بعد سنة ونصف من الغزو الإسرائيلي عام 1982.

وفي عام 1985 تم توقيع ما سُمّي بالاتفاق الثلاثي بين “القوات اللبنانية” بقيادة إيلي حبيقة، و”حركة أمل” و”الحزب التقدمي الاشتراكي”، فأذن للجيش السوري بالبقاء في لبنان ومنحه نفوذاً قوياً على الشؤون اللبنانية قبل أن يُسقطه سمير جعجع.

عام 1988، فشل مجلس النواب اللبناني في انتخاب رئيس جمهورية خلفاً للرئيس أمين الجميّل، فقام الأخير بتعيين قائد الجيش العماد ميشال عون رئيساً للوزراء. لكن الوزراء المسلمين المعيّنين رفضوا المشاركة في حكومة عون، فأصبح للبنان حكومتان، واحدة عسكرية برئاسة ميشال عون في بيروت الشرقية، والثانية مدنية برئاسة سليم الحص في بيروت الغربية، مدعومة من السوريين. عارض عون الوجود السوري في لبنان مستنداً إلى قرار مجلس الأمن رقم 520، وشنّ حرباً على الجيش السوري سمّاها “حرب التحرير”.

بدأت هذه الحرب في 14 آذار 1989، واستمرّت أشهراً، وأوقعت إصابات كبيرة في صفوف المدنيين من الناحيتين. في بادئ الحرب، حصل عون على دعم دولي سمح له بأن يصمد ويفاوض ويحصل على بند في اتفاق الطائف ينصّ على انسحاب سوريا من لبنان في غضون سنتين من تاريخ تطبيق الاتفاق. لكن الأمور انقلبت رأساً على عقب عندما احتاجت الولايات المتحدة دعمَ سوريا في حربها لتحرير الكويت، فحصلت سوريا مقابل ذلك الدعم على الضوء الأخضر لحسم الأمور في لبنان. اجتاحت القوات السورية بعبدا في 13 تشرين الأول 1990، بينما لجأ عون إلى السفارة الفرنسية ونُفي إلى فرنسا.

أصبح لسوريا نفوذ كبير بعد أن أتمّت سيطرتها، ففرضت على لبنان سنة 1991 معاهدة “الأخوة والتعاون والتنسيق” لتُضفي شرعيّة على وجودها العسكري في لبنان. نصّت المعاهدة على أن لا يكون لبنان مصدر قلق لسوريا، وأعطى سوريا مسؤولية حماية لبنان من التهديدات الخارجيّة. في أيلول من تلك السنة، وقّع البلدان “اتفاقية الدفاع والأمن”.

حكمت سوريا لبنان بيد من حديد مذّاك التاريخ، وسيطرت عسكرياً وسياسياً واقتصادياً على كلّ شيء في لبنان، فتمّ نفي وسجن كلّ من عارضها من ميشال عون، الذي بقي في باريس، إلى سمير جعجع الذي وضع في السجن، بالإضافة إلى الرئيس أمين الجميل الذي نُفي أيضاً إلى فرنسا، وأصبحت المواقع من رئاسة الجمهورية حتى أصغر حاجب في الدولة اللبنانية تحت هيمنة الوصاية السورية.

بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان ووفاة حافظ الأسد سنة 2000، واجه الوجود العسكري السوري انتقادات ومعارضة شديدة من اللبنانيين، حيث لم يعد الاعتراض حكراً على المسيحيين، بعد أن قامت شخصيات ديمقراطية ويسارية بتأسيس “المنبر الديمقراطي”، وطالبت بتصحيح العلاقات اللبنانية – السورية.

وفي 20 أيلول 2000، أطلق المطارنة الموارنة نداءهم الشهير الذي طالب بإنهاء الوجود السوري من لبنان، وأمّن الغطاء والحاضنة لمناخ سياسيّ معارض، فكان “لقاء قرنة شهوان”، الذي ضمّ الشخصيات والأحزاب المعارضة، وبدأ العمل داخلياً على رصّ الأرضية وبناء التحالفات في الداخل وفي الخارج من أجل تشكيل لوبي ضاغط كبير في الخارج، استطاع استصدار قرار دوليّ حمل الرقم 1559.

وشهد العام 2000 أيضاً انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان، كما شهد بداية الطلاق العلنيّ بين النظام في سوريا والرئيس رفيق الحريري، الذي خاض انتخابات نيابية مستبعداً رجال النظام عن لوائحه في بيروت والمناطق وأسقطهم جميعاً.

وإذا كان الحريري بقي متردّداً ومتحسّباً لرد الفعل السوري في عام 2000، فإن النائب وليد جنبلاط كان الأسرع في التلاقي مع ما ذهب إليه نداء المطارنة الموارنة لجهة تأييد إعادة انتشار الجيش السوري. وعلى الرغم من حملة التخوين والتهديد التي تعرض لها، لم يتأخّر جنبلاط ببلورة هذا التوجّه في المصالحة التاريخية مع البطريرك الماروني الراحل مار نصرالله بطرس صفير خلال زيارته إلى عاليه والشوف في (آب) 2001، والتي كانت محطّتها الأساسية في لقاء قصر المختارة، الذي اعتبر انقلاباً في التوازن الداخلي، الذي حاول النظام السوري تثبيته من خلال رئيس الجمهورية إميل لحود.

وفي عام 2004، ولحظة انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، استدعى النظام السوري الرئيس الحريري مع النائب وليد جنبلاط وهدّدهما بأنه سيحطّم لبنان على رأسيهما إذا لم يتمّ التمديد. وافق الحريري مرغماً بينما لم يوافق جنبلاط، وكان التنسيق تعمّق في هذا الوقت بين شخصيّات قرنة شهوان والنائب وليد جنبلاط وبعض الشخصيات الإسلامية واليسارية، فتمّ تأسيس لقاء البريستول الذي كان أكبر تحالف معارض للوجود السوري في لبنان.

وفي 14 شباط 2005 اغتيل الرئيس الحريري، ثم في 5 آذار أعلن الرئيس السوري سحب جيشه من لبنان. وفي 14 آذار 2005 انطلقت أكبر انتفاضة شعبية في تاريخ لبنان، سُمّيت انتفاضة الاستقلال، وجاءت رداً على تظاهرة 8 آذار التي نظّمها “حزب الله”، ورفعت شعار “شكراً سوريا”. وفي 26 نيسان كان جلاء آخر جنديّ عن لبنان.

لكنّ سوريا بقيت طوال السنوات الأولى من الخروج من لبنان كانت كأنها ما تزال في بيروت. كان نظامها يتحكّم بأدق التفاصيل وأصغر الأمور، من إقرار قوانين الانتخابات النيابية، إلى المشاركة في”تعيين” الرؤساء. وظلّت دمشق محطةً رئيسيةً لأيّ استحقاق أو لأيّ قرار يصدر في الشأن اللبناني. تُرجم الاعتراف العربي والدولي بهذا الدور، وعدم انتفائه، من خلال المشاركة في صياغة “اتفاق الدوحة” في أيار 2008 حيناً، أو في تفاهم “السين ـ سين” (تفاهم السعودية وسوريا، 2010).

ظلّت سوريا ممسكةً بالساحة اللبنانية بالرغم من خروجها من لبنان، إلى أنّ أتت الثورة السورية، فزعزعت النظام، وهزّت أولوياته واهتماماته. أشغلته في الداخل السوري، فأضعفته. ومع توالي الضغوط الدولية والعسكرية والاقتصادية، بدأ انحسار دور دمشق في لبنان، ليتسلّم حزب الله اليوم زمام إدارة الأمور في البلد، بدلاً من نظام الرئيس بشار الأسد وقادته الأمنيين.

متّن “حزب الله”قبضته على الدولة، وشكّل المظلّة الحامية لحلفاء النظام، وبقي رافعتهم، وحاول إعادة جزء منهم إلى الحياة السياسية اللبنانية، لكنهم بقوا ضعفاء.

وفي مقابل الانكفاء السياسي والعسكري السوري برزت قضية وجود العدد الهائل من النازحين السوريين في لبنان الذين تجاوزوا المليونين ونصف المليون فرد، وباتت تشكل خطراً جديدا على النسيج اللبناني وبداية عودة تأثيره هذه المرة من باب الديموغرافيا.

اخترنا لك