على ضفّة هذا النهر اليائس ننتظر لذّة الكتابة ولحظة عبور الجثّة

بقلم عقل العويط

يريد الفيلسوف أنْ تشفيه الفلسفة، لكنّ الفلسفة هل تشفي؟

الكاتب أيضًا، والموسيقيّ، والسينمائيّ، والمسرحيّ، والرسّام، والمفكّر، والمثقّف، وسواهم، يريدون أنْ يتحايلوا على عطب الوجود، وأنْ يتغلّبوا عليه، فهل يستطيعون؟

أفكّر في هؤلاء، عندما لا يعود أحدهم قادرًا أنْ يرفع حجرًا عن قبر قلبه، ولا أنْ يطلب من تفكيره أنْ يهدّئ الروع قليلًا، ولا أنْ يمسح ليلًا عن نهار عينيه، ماذا يكون في مقدور الأدب (والمواهب جميعها) أنْ يقدّم إلى صاحبه غير لذّة الأدب، وعبقريّة كونه أدبًا عظيمًا؟!

أخشى أنْ أقول: لا شيء. لا شيء.

الكاتب عندما يؤوب من وهم (خلاص) الكتابة، ويخرج من غلافها الحامي، ليعود إلى “الأرض”، إلى الواقع، إلى الحياة، إلى جهنّم العيش الشخصيّ، وجحيم العيش مطلقًا، كيف سيدير خرابه (خلاصه)، وبأيّ حيلةٍ يتعايش مع ذاته، وهو ماثلٌ أمام هشاشتها الراعبة، وبين براثن العالم الوحش؟

يريد أنّ يشفيه الأدب، لكنّ هل الأدب يشفي حقًّا، ويخلّص، ويحرّر؟

سوى أنّه لا يحقّ لأحد أنْ يضع خلاصةً رياضيّة، أي برهانيّة، وعلميّة، مطلقة ومغلقة، في هذا الشأن، لأنّ الكاتب هو نفسه، في برهةٍ قصوى من منعرجات التيه، يناقض نفسه بنفسه، حين، مغبوطًا، وممتلئًا، يشعر بأنّه اجترح للتوّ لذّةً لا تضاهيها لذّة، قد يسمّيها “معجزةً خلاصية”، شافية، ومحرّرة. لكن، إلى متى؟ وإلى أين؟!

الأدب يسأل، يستفهم، يستجوب، يقترح، يحفر، يناوش، ينبش، يساجل، يكشف، يتحدّث عن الاحتمالات والتناقضات، و”يرى”، لكنّه لا يبرهن، ولا يقنع، ولا يقدّم أجوبة.

الأدب ليس دينًا، ولا يريد أنْ يكونه.

أجمل ما في الأدب، أنّه لذّة (رولان بارت)، وأنّه “عابر”، وليس مطلقًا، على رغم الوعود الثوريّة التي راح يطلقها أهل الكتابة، في تجلّياتهم القصوى ولحظاتهم الحاسمة، عن الخلاص بالكتابة.

لا شكسبير شفى أبطاله، ولا دانتي، ولا رامبو خلّص نفسه (ولا خلّص العالم بالطبع)، ولا المتنبّي، ولا ريلكه، ولا سقراط، ولا صموئيل بيكيت، ولا هايدغر، ولا غارثيا ماركيز، ولا شعرائي شفوا أنفسهم، وخلّصوها، ولا أنا شفيت نفسي ممّا بها نفسي. ولا خلصتُ.

وعليه، من قال إنّ صاحب النعلين من ريح قد داوته الكتابة؟ هو ذاته سرعان ما أدرك أنّ مهمّته الشعريّة التي تتوهّم خلاص العالم قد وصلت إلى طريقٍ مسدود، وباءت بالفشل، فارتدّ مرتجيًا الخلاص الشخصيّ والفرديّ بالشعر، بالكلمات، ليجد نفسه “يهرب” بلا نعلين، وهو في الريعان، من الشعر وأوهامه و”مخدّراته”.

يحضر بول أوستر بقوّة، في هذه الكتابة التائهة، وتحضر شخصيّاته، ومراياه، لتكشف الأغطية عمّا يحجب، مدركةً أنّ جروحها تبقى فاغرةً ومفتوحةً، بل تزداد نزفًا، حتّى وهي تعالج الحماقات، وسكرات الأبطال الموهومين بالشفاء والخلاص و… الحرّيّة.

كلّما أوهمنا كاتبٌ أو فيلسوفٌ أو فنّانٌ بالخلاص، كلّما جعلَنا “نؤمن” بأن النهايات ليست هي النهايات، وبأنّ ضوءًا ما لا بدّ أنْ يزدهر ليؤنس وحشة هذه النهايات، أكانت قبورًا أم أسرّةً مريضةً أم غرفًا موحشة، انتهى هذا الكاتب الفيلسوف، والكتابة والفلسفة والفنون جميعها، في حفرةٍ يائسةٍ لا قعر لها.

أستنجد ببول أوستر الذي يقول إنّ غرفنا هي السجون الوحيدة التي ندخلها طوعًا لنجد الحرّيّة. هل ندخلها طوعًا، أم نهرب إليها من سجن العالم؟ وهل نجد فيها الحرّيّة، في غياب الحرّيّة؟ وأيّ حرّيّة تبقى لنا عندما الوجود كلّه غارقٌ في العدم الهمجيّ؟

فلنسلّم جدالاً بأنّ ثمّة خلاصًا وشفاءً، ولنذهب بأعبائنا المثقلة بعطب الوجود إلى تلك الغرف، وليضع كلٌّ منّا على وجهه “قبع الإخفاء”، ليراقب باعتناءٍ هائل أحوال تلك الغرف، وأحوال ساكنيها. أترى، ثمّة خلاصٌ فيها، وشفاءٌ، وحرّيّة؟!

ولِمَ لا نذهب فورًا إلى غرفة بول أوستر، إلى مخدعه، إلى مكتبه، ومكتبته، وغرفة عزلته، وغرفة رأسه، لنسائلها عن أحوال ذلك الرجل الذي كأنّه كان. ثمّ أليس الأجدى أنْ نترك أوستر هو يتكلّم، كاتبًا نبوءته اليائسة: لا شيء أكثر رهبةً من مواجهة أغراض رجلٍ مات. الأشياء تهمد أيضا (تموت). لأنّ معناها كامن في دورها خلال حياة صاحبها وحسب. فعندما تتوقّف تلك الحياة، لا بدّ أنْ يعتري تلك الأغراض تحوّلٌ ما.

وهذا التحوّل، أليس هو الزوال والموت؟ ثمّ ينبري السؤال الدائم: أيجب أنْ يموت المرء ليصير حرًّا؟

أم يجب، ونحن واقفون على ضفّة هذا النهر اليائس، ممتلئين بوهم الخلاص بالكتابة، منتظرين عبور الجثّة، أن نقول مع القائل، أنتَ على هذه الأرض، لا مفرّ من ذلك؟!

تبقى “حقيقة” واحدة، لا غير، هي حقيقة اللذّة، لذّة النصّ، لذّة الكتابة (ولذّة الحبّ، أليس كذلك؟!). وقد أجدني أقول على الرغم من برهويّة (لحظويّة) هذه اللذّة التي نظّر لها رولان بارت، إنّها وحدها شافية، ومخلِّصة، وتستعبد، وتحرّر.

اخترنا لك