مغالي كترا في “اللبنانية الأميركيّة” تتقدّم… هذا ما رأيته للمرّة الأخيرة وهو ليس بقليل

بقلم عقل العويط

لا أزال أتذكّر لوحتَي المرفأ القتيل، وبحر المشهد البشريّ الانتفاضيّ العارم، في معرض مغالي كترا السابق. فاللوحتان ماثلتان في عينيّ، وعقلي، ووعيي النقدي، ومحفورتان في وجداني المثخن بأوجاع المدينة وأحلام أهلها المضرّجة. معرضها الجديد، في الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة ابتداء من العشرين من حزيران الجاري، إذ يلقي التحيّة على هاتين اللوحتين، يواصل الهجس برسم آخر ما شاهدته الفنّانة (عنوان المعرض last seen)، وبما رأته للمرّة الأخيرة، رسمًا حركيًّا إيحائيًّا، وبما رصدته، وبما سجّلته، من وجوهٍ مبهمة، ومن قاماتٍ طيفيّة متدفّقة وراقصة.

العملان السابقان لا يمثّلان حدثًا عابرًا في كيانها البصريّ، ولهذا أعود أرى أحدهما خصوصًا، حاضرًا من خلال لوحة الجمهور، لوحة الحشد، التي تلازم المعرض الجديد، من دون أنْ “تستبدّ” به، أو تشرنقه. ذلك أنّها لا تراوح مكانها، ولا إيقاعها، بل لكأنّها في حالٍ من البحث عمّا يجعلها تنمو نموًّا داخليًّا وحيويًّا، وعما يدرجها في الزمن الراهن، وأحوال ناسه، وحواراتهم، وتطلّعاتهم.

لوحة الدعوة إلى المعرض هي “آخر ما رأته” عين الرسّامة، أو “ما رأته للمرّة الأخيرة”. إنّها نقطة الضوء والثقل فيه، وهي خلاصة تشكيليّة تنطوي على اكتنازٍ تلوينيّ بالغ الاقتصاد والزهد، لكنّه بالغ النفاذ إلى عمق أعماق الحال البشريّة.

ثمّة مستطيلٌ أسود ينهمر من أعلى اللوحة إلى أسفلها، ليحتلّ ستّين في المئة، بل أكثر قليلًا، من مساحتها، يقابله انهمارٌ لبياضٍ عارٍ من أعلى إلى أسفل. ليس المستطيلان هما غاية اللوحة ومبتغاها، بل ذلك الطيف الواقف تحت، المتجسّد بالقليل من الرسم بالخطّ الأسود، وبالقليل الأقلّ من الأحمر، ليمثّل شخصًا، ولدًا، أو بنتًا، رجلًا، أو امرأة، ملتصقًا بمستطيل السواد العارم، محتميًا به.

لكأنّه بين هذين السواد والبياض، واحدًا وحيدًا، من دون أنْ ينبس بكلمة أو بصرخة، أو بسوى ذلك من تعابير. لكنّه ليس وحيدًا تمامًا، بل ثمّة مستطيلٌ أحمر صغير للغاية، يشغل حيّزًا ضئيلًا إلى الأسفل من المستطيل الأسود العظيم الحجم، وهو في اعتقادي يشكّل حجر التوازن، والتماعة الحياة القصوى في اللوحة التي تفوز بانتباه الكائن الذي ربّما يشعر بالخوف أو يلتهمه سؤال الوجود برمّته.

لوحةLast Seen بما تنطوي عليه من تجريدٍ لونيّ وهندسيٍّ، طيّب وذكيّ، ليست لوحةً عشوائيّة، ولا تأتي من عدم. بل هي ثمرة حضورٍ خفرٍ ملازم للأعمال السابقة، بطريقة أو بأخرى، كامنٍ في مكانٍ ما من خلفيّة القماشة ومسرحها التشكيليّ. كان ثمّة على الدوام مستطيلٌ أفقيّ أو مستطيلٌ عموديّ، أحمر في الغالب، على أسوَد. ها هو يتقدّم إلى الأمام ليصير هو مغناطيس اللوحة، ومن المتوقّع أنْ يصبح هاجسها التشكيليّ في الأعمال المقبلة.

لن أتناسى الإيقاع الحركيّ الهاتف، الذي يتمثّل في الوجوه والقامات التي تحتلّ غالبيّة اللوحات، وتجعلها في حالٍ من الفوران الجمعيّ الباحث عن أفق، عن ضوء، عن بصيص، في غمرة ما يعتري عالمنا ولبناننا وأهلنا من مشقّات وأوجاع. حنكة البناء بالأحمر والأسوَد والأبيض، لا بدّ أنْ تفضي إلى لوحة جديدة. الطريق طويل أمام الرسّامة الفتيّة، لكنّ الشجرة لا تزال في أوّل الربيع.

اخترنا لك