نجيب محفوظ والثلاثيّة : الحوار والتحوّل في خدمة عنصر الحركة

2/3

بقلم نبيل مملوك

تبدأ رواية قصر الشوق وهي الجزء الثاني من ثلاثيّة القاهرة لنجيب محفوظ٬ بجرعة دراميّة متوسطة الايقاع…حيث يكون مطلع الحوار بين سي السيّد وأمينة مبتدءًا دراميًّا يخفي في طيّاته أسى ودراما خلّفتها جزئية بين القصرين الأخيرة.

والحق أن زمن الأحداث الفاصل (خمس سنوات) بين الرواية الأولى والثانية كان كفيلًا بجعل محفوظ ينتقل وشخصيّاته من أولويّة النحت والتصوير إلى أولويّة التحوّل سواء على الصعيد التقني الكتابي أو الحركيّ السياقي.

الحوار …مبتدأ الحركة ومنتهاها…

اعتمد محفوظ في “قصر الشوق” المكان الذي يشهد انحدار شخصيّة ياسين الشهوانيّة والمهنيّة على الحوار كعامل يقدّم الحدث بصيغة مباشرة بعيدًا من زخرافات بين القصرين التي كادت توقعه في الاطناب والتواتر… ممّا جعل الصيغ الخبريّة جاهزة لتدخل دائرة التلقّي بسلاسة٬ أي نحن أمام انتقال صريح من تقنيّة المشهد التي أسّس لها محفوظ في الجزء الأوّل إلى تقنيّة التلخيص التي اختزلت الحدث والحركة بالحوارات الكثيفة التي كانت ممسرحة كونها تحمل حدّة وسجالًا في بعض مواضعها من جهة( صراع كمال والسيد حول تخصّصه أولا وحول مقالته الأولى من جهة ثانية) ومواجهات بين ياسين والسيد من جهة ثانية.

فضلًا عن أن تتمة انتهت بحواريّة تمهّد لتراجيديا مؤكدة بعد تأكيد ياسين خطورة وضع خليل شوكت صهره وأولاده.

وقد مهّد الحوار أيضًا لسرديّات مخفّفة على الصعيد الوصفي رغم كل التحولات التي طالت كمال الشخصيّة الحديثة التكوين سنًّا والضائعة بين هويّتها الأدبيّة الرومنسية المتسائلة من جهة وتأثرها بشخصيّة الشهيد فهمي الشقيق الأكبر.

معظم السرديّات في هذا الجزء كانت مقدّمة لتتابع الأحداث وفرض الزمن كدينامو للحركة والتحوّل٬ خمس سنوات أي نحن أمام نصف عقد كفيلة باقناع المتلقي للخروج من دائرة
الثبات نحو دائرة البحث عن المتغيّرات.
الشخصيّة بين عقدها النفسيّة وموقعها الاجتماعي
لم يكن التاريخ السياسي في هذا الجزء سوى استراحة قصيرة أو عنصر تشويق (وفاة سعد زغلول) لمعرفة المصائر في الجزء الثالث…على عكس الجزء الأول الذي اعتمد فيه محفوظ تصوير الواقع المجتمعي من زاوية وفديّة مغطّاة بنبرة وطنيّة…وبالرغم من محاولة كمال التأقلم مع ذاته ومعتقداته وتساؤلاته إلّا أن كبته الجنسي المتبوع بتأنيب ديني يعود إلى تعلقه بالحسين (ع) ومقامه أظهر لنا مقايضة بين الروائي والقارئ.
فكمال الذي يصرخ القرٱن إمّا يكون كله حقّ أو لا.وكمال الذي يميل تدريجيا نحو داروين وكمال الذي يفصل الدين عن الجنس لأسباب عاطفيّة وشهوانيّة تربطه بحلقة مغلقة جينيا مع ياسين والسيد أحمد عبد الجواد الذي تقهقر بسبب السن والمرض وتقهقرت ديكتاتوريته وأفرزت تخبطًا عائليا
من تمرد أمينة البريء إلى مشاكل خديجة إلى وقاحة ياسين وشهوانيته وتفرّد كمال بقراراته…هذه الحلقة كانت هديّة للمجتمع الشرقي المحافظ من محفوظ لقاء رسمه لكمال العلماني المجدّد باختلافه الضبابي.
واللافت أنّنا أمام تغيّر في اظهار العقدة فانتقل محفوظ من نبرة التفسير وخطف دور المتلقي في بين القصرين…إلى اطلاق العنان لتأويل القارئ في قصر الشوق أي أن عقد الشخصيات وبناؤها النفسي والمجتمعي في الجزء الأول كانت خلفيّة نفسيّة لتشبث الكاتب بالتحليل النفسي وطرحه على الاخر المتلقي.
شكّل التحوّل التقني في قصر الشوق سلسلة من التحولات الكتابية والموضوعاتيّة ٬ حيث تكرّس السجال والحوار المسرحي الاشكالي على حساب التصوير والوصف لتكون الشخصيّة ملكًا عامًا لكل القرّاء بعدما كانت ملك محفوظ عمليًّا وملك المتلقي فقط من ناحية التخيّل والتصوّر.

اخترنا لك