١٧ تشرين و المسار التاريخي للاعتراض اللبناني (1)

بقلم د. حسن يونس – كاتب وباحث في الفلسفة السياسية

شهد الكيان اللبناني منذ تأسيسه بصيغة دولة لبنان الكبير أوائل القرن العشرين جدلا واسعاً حول مشروعيته وصوابية الانتماء إليه. كانت التجربة العثمانية أليمة ومفجعة من حيث الممارسة القاهرة والاستعبادية التي مارستها على مجمل الجماعات الداخلة في تشكيل المجتمع اللبناني، وافتعال الصراعات التناحرية بين الطوائف والمذاهب من أجل ضمان سيطرتها عليهم من خلال فصلهم عن بعضهم البعض وادعاء حمايتها للجميع. نشأ الكيان الوطني اللبناني في ظل هذه الظروف من تزعزع الثقة بين فئاته الدينية المتنوّعة وإثنياته المختلفة.

نال لبنان بعد رحيل العثمانيين دعماً دوليا بفضل حنكة بعض رجالاته وحماسهم وتفانيهم في إرساء أسس مجتمع آمن مستقر ومزدهر في ظل دولة حرّة مستقلة قائمة على التعدد والتنوّع والعيش المشترك في سلام ووئام. بدأت مع هذه المرحلة عملية بناء المؤسسات الدستورية والقانونية وظهور التشريعات السياسية وإنشاء القوى الأمنية وكافة الأسس والبنى اللازمة في تكوين دولة عصرية تكون محط افتخار واعتزاز عند جميع أبنائها.

لم يمنع هذا الجو من وقوع لبنان تحت الانتداب الفرنسي مع احتدام التناقضات والصراعات الدولية والإقليمية، فانعكس ذلك على الداخل اللبناني ومكوّناته المذهبية والطائفية والمناطقية وتعالت الأصوات الاعتراضية المشككة في نوايا الدول الداعمة للبنان وخصوصاً فرنسا وبريطانيا من جهة، وفي مدى صدقية وولاء المسلمين لهذه الدولة الناشئة. هذا النوع من التشكيك والتجاذب أرسى أسس الصراع الطائفي والقومي ولاحقا المذهبي والمناطقي.

بقي الانصهار الوطني شبه غائب إلا لدى قلّة نخبوية أدركت مدى قيمة هذا التنوع والتعدد الديني والثقافي والسياسي، وما يختزنه من غنى روحي ومادي وإنساني إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية وقيام تقارب سياسي بين الطوائف والمذاهب اللبنانية. أسفر هذا التقارب أو التحالف عن اعلان استقلال لبنان ومن ثم جلاء الجيوش الأجنبية عنه.

طغت على أجواء الاعتراض المجتمعي والسياسي اللبناني في هذه الفترة الممتدة من الحرب العالمية الأولى إلى الحرب العالمية الثانية احتجاجات ومعارضات ذات بُعد طائفي لم يرتقِ إلى حد نشوب صراعات دموية مسلحة وعنيفة على غرار ما يشجع عليه القادة الأيديولوجيون. يعود ذلك إلى سيطرة قوى وشخصيات سياسية تقليدية على شيء من الحكمة والتعقّل والضمير اليقظ والسلمية، فبقيت الأحزاب العقائدية الدينية والعلمانية محدودة الأثر والفعالية في الأوساط الاجتماعية والثقافية والسياسية.

لكنّ الكيان اللبناني لم يكن سوى بقعة جغرافية صغيرة جدا إذا ما قيس بالكيانات العربية المحيطة به والمؤثّرة عليه في توجّهاتها ومعتقداتها وتطلعاتها وأيديولوجياتها. وهو جزء تاريخي أصيل منها يشاركها تقاليدها وتراثها ويحمل ارتباطات عميقة معها. كان بالإمكان ملاحظة التمايز والاختلاف في نمط الحياة من كافة الوجوه تقريباً مع المحيط العربي بحيث أفضى بالكثير من الإيجابيات والفضائل التي أرست انتماء إراديا وافتخارا وطنياً، ووسّعت من تنامي المشاعر الوطنية الوحدوية وأمّنت أجواء مشجّعة للعيش المشترك انعكست على التطور المجتمعي للبلاد اقتصاديا ومعرفيا وتعليميا وصحيا.

لا تستطيع هذه الصورة الوردية إلى حد ما أن تخفي حقيقة على قدر من الأهمية في تحديد مجرى الأحداث اللبنانية التي سرعان ما طفت على السطح مع تنامي النزعة القومية العربية وتبلور القومية السورية يقابلهما تيار النزعة اللبنانية واستيقاظ الحركة الدينية الإسلامية على مسرح الحياة السياسية إثر كارثة اغتصاب فلسطين وتأسيس دولة عنصرية بطابعها اليهودي عمليا، وعلمانية في نصوصها النظرية “إسرائيل” وسط دعم بريطاني غير محدود ومن بعده أميركي في ظل رضا وتواطؤ دولي واسع وخصوصاً من دول الغرب الأوروبية.

الحقيقة التي أردنا الإشارة لها هي أنّ التركيبة اللبنانية قد اختزنت مجموعة هائلة من الصراعات والاختلالات والانقسامات التاريخية على كافة الصعد الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والدينية والسياسية. تسللت الأيديولوجيات العبثية من هذه الزاوية وصاغت برامجها وأفكارها وشعاراتها السياسية انطلاقا من مبادئ إنسانية عصرية ظاهريا أعطتها مشروعية لمطالبها وتطلعات أتباعها. انجذبت لهذه الأيديولوجيات أعداد غفيرة من مختلف مكوّنات الشعب اللبناني وانخرطت في نشاط أحزابها.

جاء تفشّي الأيديولوجيات ذات الطابع العلماني (القومية والشيوعية والاشتراكية) كنتيجة منطقية لقوة جاذبيتها في أوساط شبه أمّية وذات ثقافة سياسية ضحلة حتى في أوساط المتعلمين وبيئات مهمّشة ومعدومة في الأطراف، وتتلاءم مع ميل جارف في طبيعة التركيبة الإنسانية الطامحة إلى غد أفضل ومشرق وآمن وعصري متحرر من ثقافة العصور الوسطى وأفكارها الخرافية البائدة وسردياتها المختلقة.

على الرغم من الانتشار الواسع لأحزاب هذه الأيديولوجيات في مختلف المناطق اللبنانية تقريبا بنسب متفاوتة، واستيلائها على عقول وقلوب الشباب من مجمل المستويات المهنية والثقافية الأكاديمية والاجتماعية والاقتصادية والدينية إلا أنها لم تستطع أن تضيف شيئاً جوهريا في مسار تطوّر البلاد والمجتمع. انحدرت من إخفاق إلى إخفاق، ومن مأزق إلى آخر بحكم طبيعتها الماهوية العميقة.

هي مجرد أحزاب ذات مطامح سلطوية حصرياً، ولم تتمكن من أن تمتلك قدرا كافيا من التعفف الصادق أمام إغراءات السلطة المحلية وارتهاناتها الخارجية سواء الإقليمية أو الدولية. وصل الأمر بها إلى حد العمل تحت الرايات الطائفية الهزيلة في مواجهة الطوائف والمذاهب الأخرى. لم تكن مصالح المجتمع اللبناني وأهله لديها أكثر من مطية ترفعه كشعار في المناسبات لتضليل الناس والمتاجرة بهم وبأبنائهم وبحاضر ومستقبل البلاد.

غلب على التحركات الاعتراضية للأحزاب الأيديولوجية الطابع العلماني الرافض للانقسامات والصراعات الدينية الطائفية والمذهبية والمناطقية، وصاغت مشروعها التغييري فيما عُرف ببرنامج الحركة الوطنية اللبنانية. للأسف، لم يلمس اللبنانيون من وطنيتها وتقدميتها ودفاعها عن شعب لبنان سوى الارتهان للخارج الإقليمي أو الدولي وانحيازها الفاضح والمعيب لطائفة أو مذهب على حساب طوائف ومذاهب أخرى، فغرقوا في الوحول الطائفية والمذهبية والمناطقية. يمكن تذكّر بعضا من هذه المواقف من خلال الحديث عن طوائف وطنية وتقدمية وثورية وأخرى رجعية وانعزالية وفاشية ومرتبطة بالأجنبي. كلها أصوات فارغة وهراء لا يبتغي سوى تبرير المواقف السياسية والارتهانات المشبوهة.

انعدام الروح الوطنية الصادقة وارتفاع منسوب الانتهازية السياسية وتعمّق المظاهر المرَضية في شخصيات قيادية طامحة إلى المجد والعلى والخلود لمداواة هشاشة أنواتها المضطربة والمتضخمة في نرجسيتها. هذه العوارض مجتمعة قادت الأحزاب والقوى المسماة وطنية وتقدمية من جهة، والأحزاب المنغلقة في قوقعتها المذهبية كرد فعل على تهديد هوياتي وتطاول على امتيازاتها التافهة من جهة أخرى، إلى استسهال حرق البلاد والعباد، والانزلاق إلى هاوية الحرب الأهلية استجابة لارتهانات وإملاءات لا مصلحة حقيقية للبنانيين بها.

عاثت قوى الحرب والتدمير فساداً وتقتيلا وإرهابا، وتفككت أواصر العلاقات الوطنية بين أبناء الشعب الواحد، وخرّبت إدارات الدولة ومؤسساتها ومرافقها الحيوية ، وجرت استباحة القوانين والدستور لصالح دستور الميليشيات وقوانينها. سيطرت الهمجية على الحياة اللبنانية وذوت الدولة الموعودة وتلاشت. لم تخرس أصوات المدافع والقذائف إلا بعد أن أنهكت جميع القوى السياسية المدافِعة عن حرية لبنان وشعبه وسيادته وتطوره واستقلاله.

الخاسر الحقيقي الوحيد كان الشعب اللبناني بكل فئاته ومكوّناته بعدما استخدمته أحزابه كحطب يابس وزجته في آتون حروب عبثية ومعارك بالوكالة لا ناقة له فيها ولا جمل. هاجرت وهُجّرت عائلات وقرى بأكملها، وفرغ الوطن من أبنائه واحترقت موارده وأمانيه. يمكن اعتبار هذه الحقبة الاعتراضية للشعب اللبناني بمثابة عملية انتحار جماعي، صدّق فيها معظمهم أنّ جلاديهم هم قادة ملهمون يرومون خلاصه وتحقيق أمانيه. لفّ الإحباط جميع فئات الشعب اللبناني بعدما خاب ظنه في الأحزاب الثورية والوطنية ومات رجاؤه.

( يتبع … )

اخترنا لك