خالد خليفة… الفتى الشائب الذي لم يصلّ عليه أحدٌ

بقلم نبيل مملوك

ثقيلة هي الـ”نا” اللصيقة بفعل الخسارة، نعم، خسرنا #خالد خليفة (1964- 30 أيلول 2023) إنسانًا عربيًّا وشاميًّا قبل أن نخسر ذاك الذي تورّط بالكتابة الحرّة والحادّة، الروائي والسيناريست السوري الذي مدحت شخصيّاته الكراهية وضاعت سكاكين مطابخه بحثًا عن وطن أهلكه القمع والاستبداد البعثيّ وهمجيّة الحرب الأهليّة الإثنيّة، أودعنا كلّ ما في قلبه وعقله ورحل…

والحقّ أن معظم أعماله الروائيّة ــ وبعكس ما يمكن أن يتوصّل إليه العقل المتلقّي للصدمة – اِنضوت تحت راية الفعل أو بالأحرى الفعل المضادّ بحثًا عن الصورة التامّة أو بالأحرى عن لغة هذه الصورة.

الاِنسان الذي تصدّق بقلبه

في كتابه الأخير “نسر على الطاولة المجاورة ” الصادر عن دار هاشيت أنطوان ــ نوفل (2022) تعارك خليفة مع الحياة المرتبطة بأدوات الكتابة من خلال زمكانيّة قابلة للخلود. وبأسطر قليلةٍ قدّم خلاصات سريعة كانت الأخيرة من دون أن ندري وإيّاه “إيماني لا يتزعزع بأن العلاقات العامّة لا تستطيع إنقاذ الكتابة السيّئة، وأنّ الكتابة الجيّدة لا تحتاج إليها”. (ص.53) نحن أمام مانيفستو الوحدة، التي سالت في عمق حياة مؤلف سيناريو “هدوء نسبي” رغم ما يحيطه من محبّين وأصدقاء، الوحدة التي قيل إنّها شهدت على وفاته في منزله بشكل مفاجئ أعفته من مهمّة لطالما عدّها عملًا شاقًّا وهي اِختبار مكانته بين الجموع “أعتبر لقائي مع زملائي وأصدقائي الكتّاب في المهرجانات ومعارض الكتب، مناسبة سعيدة لامتحان أفكاري عن الكتابة…” (ص.56). مات خالد خليفة كما يحب أن يكون… صفحة بيضاء خالية من الاختبارات.

إنّ هذا الكتاب رغم حساسيّته الفكريّة كونه يتناول مفاهيم حسّاسة كالكتابة والمدن والمكان والناس والزمن إلخ، إلّا أنّه كان الورقة الأخيرة، مرآة عكست حياة مؤلف “الموت عمل شاقّ” الطفوليّة الضاجّة باللهو والضحك والابتسامات، لغة تعبّر عن قلب أراد التصدّق بكل شيء لنفسه وللآخر كي يرحل بلا حقائب أو وجبات ابداعيّة مهملة.

الروائي الحادّ المباشر

لم يكن خالد خليفة صاحب قضيّة، بل باحثًا عن الوجود الفرديّ، من مديح الكراهية (دار الآداب، ط. أولى 2006) حيث اِضمحلال الأثر الإنسانيّ على حساب الأثر الشهوانيّ العدائيّ، وبروز السرديّة الكثيفة على حساب الحواريّات الدراميّة واكتمال الشعريّة، حضرت الحرب الأهليّة والديكتاتوريّة كمشكلات تطاله بشكل شخصيّ كسوريّ حلبيّ يريد الحريّة لغة عامّة ينطقها الجميع وهو ما دفع ثمنه عام 2012 من اعتداء عناصر نظاميّة بعثيّة عليه بتكسير يديه، أي وسيلته للتعبير التي بقيت حادّة وساطعة رغم منع كتبه لا سيّما مديح الكراهيّة، وقد قابل ذلك بكتابة “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” وجنح نحو أوّل التاريخ ليكرّم حلب المنكوبة سابقًا بفعل كارثة طبيعيّة وهي الفيضان في “لم يصلّ عليهم أحد” (هاشيت أنطوان – نوفل 2019).

إن التقديم الموضوعاتي لهذه الأعمال الروائيّة البارزة له بعد عملين هما “حارس الخديعة” الأشبه بسيرة ذاتيّة و”دفاتر القرباط”، يبيّن أن خليفة بحث في جدليّة الهدم والمحو المستدامة – التي تقودنا إلى التفكيك نقدًا دون تساؤل عقليّ مركزي – بين الموت والحياة، وبين جماعات الموت وجماعات الهروب، بين أمكنة محروقة وأمكنة تحصّن نفسها بالألوان.

رغم موقفه، لكنّه كان باحثًا موضوعيًّا يكتب المشاهد ليتأنى بخياره ويعرف ما هي خياراتنا، هل الصمت؟ أو البكاء؟ أو الألم أو الأمل؟ أو كلّها كونها خصال إنسانيّتنا العربيّة المنهكة.

لا يختلف الأمر كثيرًا في ما يخصّ أعماله التلفزيونيّة التي تناولت قضايا المجتمع السوري والعربي خصوصًا في هدوء نسبيّ الذي تحدث بلغة الناس ومشاكلهم اليوميّة وبقيت جدليّة المحو والهدم قائمة عبر حلقات متتالية تترك تساؤلات كثيرة حول الغد.

على عجل غادر خالد خليفة، ربّما قال كلّ شيء. حتى ملاحظته في أحد حواراته عن كثرة الموت في نصوصه قالها. زرع اختلافه ومحبّته بيننا، كان الطفل الشائب الذي حمّلنا قضايانا كما هي، علّنا بقراءتها نتّعظ أو نرى ما فعلناه.

كان من كتب “دفاتر القرباط” فرنكشتاين حلب و الشامّ، يريد بحدّة القلم كتابة الألم… علّ الحريّة تسيل وتصبح #ثقافة لمدن عربيّة مرهقة.

اخترنا لك