١٧ تشرين… لبنان، بين الماضي والحاضر والمستقبل من اللادولة إلى الدولة

جزء أول

بقلم د. فؤاد سلامة – كاتب وناشط سياسي

احتفل اللبنانيون منذ سنتين بمضي مائة عام على قيام دولة لبنان الكبير. كانت تلك مناسبة لطرح أسئلة جوهرية.

يتعجب المؤرخ والمحلل والمراقب المتابع للوضع اللبناني من واقع أنه رغم مرور أكثر من مائة عام على قيام لبنان الكبير ما زال هذا البلد غير قادر على تجاوز مرحلة التأسيس.

يوجد في لبنان نظام وسلطة وحكومات متعاقبة وبرلمان منتخب ولكن لم يوجد بعد دولة بالمعنى الحديث.

لا بد بداية من طرح السؤال الأهم: هل يملك اللبنانيون المقيمون على تقاطع خطوط التصدعات التاريخية والثقافية والسياسية والقومية والدينية، في هذه البقعة الجغرافية الصغيرة، ما يكفي من الشروط والإرادة لكي يشكلوا شعباً واحداً وموحداً ؟

واستتباعاً لذاك السؤال : هل كان لبنان الكبير خطأً تاريخياً لكونه جمع مكونات أهلية لا يمكن أن تأتلف على مدى طويل على مساحة ال ١٠٤٥٢ كلم مربع للبنان الكبير ؟

قبل الحرب الأهلية، في مطلع السبعينات كانت الحركة الاعتراضية على النظام اللبناني الطائفي تتمثل بقوى اليسار والأحزاب القومية. حملت هذه الأحزاب والقوى مفاهيمها وقيمها ساعية لإصلاح النظام طارحة برنامج الحركة الوطنية مدخلاً للإصلاح.

سرعان ما وقعت الحركة الوطنية في فخ التبعية والارتهان عندما التحقت بالمقاومة الفلسطينية، مساهمة بذلك في زرع بذور الحرب الأهلية عندما اصطدمت بالقوى اليمينية المحافظة والرافضة لتطوير النظام.

يمكن للبعض أن يطرح أسئلة محرجة على القوى التي اعتقدت يومها بإمكانية تطوير النظام اللبناني الطائفي من خلال الطروحات التي حملها القوميون بطيفيهم القومي السوري والقومي العربي، أو من خلال الطروحات التي حملتها قوى الإسلام السياسي بجناحيها الأصوليين المتنافرين والمتشابهين السني والشيعي.

هل كان من الضروري أن نحمِّل هذا الكيان – الوطن الصغير أوزار عقائد قومية كان دعاتها يؤمنون ويعملون على أساس أنه لا يمكن لهذا البلد أن ينمو ويتطور خارج رحمه الطبيعي كما كان يردد القوميون السوريون، والمقصود هو رحم سوريا الكبرى، أو رحم الأمة العربية كما كان يردد القوميون العرب ؟

وأما المنتمون إلى الإسلام السياسي بطيفيه الأصوليين السني والشيعي، فطالما تبجحوا بعظمة وتفوق عقائدهم الشمولية التي تجعلهم يجزمون بأن هذا الوطن الصغير لا يستطيع بإمكاناته المحدودة أن يواجه أطماع الدول الكبرى الاستعمارية والإمبريالية من دون أن يذوب أو يدور في فلك أمة إسلامية ذات حضارة كونية ورسالة إنسانية.

لا القوميون العرب والسوريون ولا أهل الإسلام السياسي ولا اليساريون الأمميون فهموا حقيقة وطنهم وحقيقة تركيبته الاجتماعية المعقدة. جميعهم ساهموا بطريقة أو بأخرى في التحضير للحرب الأهلية التي امتدت لخمسة عشر عاماً وأدت لصعود طبقة سياسية جديدة جمعت أمراء الحرب الأهلية وتوجت حروبها المدمرة باستلامها للسلطة مباشرة بعد مؤتمر الطائف وبعد إصدارها عفواً إستثنائياً عن جرائمها الحربية.

كان من المفترض أن يكون الطائف مؤتمراً للمصالحة الوطنية ومنطلقاً لإصلاح وتطوير النظام اللبناني. مضت عقود ثلاثة منذ انتهاء الحرب الأهلية ولم يتم الشروع في تطبيق الإصلاحات الرئيسية التي نص عليها اتفاق الطائف.

كيف يمكن ائتمان أمراء الحرب وزعماء الطوائف الذين أوغلوا في ارتكاب الجرائم والموبقات، خلال ١٥ سنة من الحروب المتنقلة، على مهمة إصلاح وتطوير نظام كان عصياً على التطوير منذ عشرات السنين ؟ كيف يمكن الوثوق بطغمة سياسية نمت وترعرعت في خنادق الحرب الأهلية ولم تتلق الحد الأدنى من الثقافة السياسية ولم تمتلك ذرة من الضمير الإنساني والحس الوطني ؟

في المرحلة الأولى من عمر الجمهورية الثانية، جمهورية الطائف، حصل تزاوج بين الطغمة المنبثقة من خنادق الحرب الأهلية والطغمة التي التفت حول رفيق الحريري بصفته رجل المرحلة الأولى لدولة الطائف.

بدأت الاختلالات المالية بالظهور في تلك المرحلة وزادها اختلالاً الوصي السوري الذي ساهم مع مجموعة أمراء الحرب والمجموعة التي التفت حول الحريري الأب في تقاسم المنافع والعوائد المالية لدولة الطائف بحماية الجيش السوري وبغض نظر من المجتمع الدولي الذي كان يؤمِّن من وقت لآخر استمرار التدفقات المالية.

ما جاء الطائف لإصلاحه ازداد بروزاً وتشوهاً مع الوقت. كان من المفترض أن تكون الجمهورية الثانية ممراً نحو الدولة العصرية الحديثة، دولة المواطنة الخالية من رواسب الماضي وعفنه الطائفي. ما حصل هو استمرار الماضي بكل سلبياته وأمراضه وعقده في التحكم بالحاضر بحيث أصبح المستقبل صورة أسوأ عن الماضي الممتلئ بأحقاد الحرب وبشاعاتها.

لم يكن للحركة الاعتراضية دور مهم خلال العقود الثلاثة التي تلت انتهاء الحرب الأهلية بفعل إقصاء قادتها ونخبها عن المشاركة في حكومات ما بعد الطائف المتعاقبة على السلطة.

رغم الهَبَّات العفوية وحركات النخب الحداثية التي كانت تعبر من وقت لآخر عن حالة السخط عند الأجيال التي أبصرت النور أثناء الحرب الأهلية، بقيت الحركات الطلابية واليسارية الجديدة والقديمة أسيرة الأفكار والأيديولوجيات التي كانت متغلغلة في أوساط المعارضة يتناقلها الآباء والأبناء.

فقدت النقابات دورها بالكامل كمدافع عن مصالح العمال وأصحاب المهن الحرة بعد أن سيطرت عليها أحزاب الطوائف التي صادرتها ووضعت على رأسها أزلامها.


يتبع…

اخترنا لك