‎ التعاطف مع القاتل لا مع الضحايا

بقلم د. فؤاد سلامة
كاتب وناشط سياسي
خاص بوابة بيروت

يبدو بوضوح للمراقب المتابع الموضوعي أنه خلال أكثر من شهر من الحرب على غزة كان الإعلام الغربي الرسمي والخاص يهتم بإظهار التعاطف مع القاتل لا مع الضحايا.

قبل أن نبدأ النقاش مع المحاورين الغربيين في الموضوع الفلسطيني كعرب أو كغربيين من أصول عربية، أو إسلامية، يريد السياسيون والإعلاميون من أصول غربية أو مسيحية أو يهودية أو علمانية، يريدون أن نُقسِم بأغلظ الأيمان وأن نؤكد بداية أننا :

  • لسنا مؤيدين لحماس.
  • حماس منظمة إرهابية.
  • الفلسطينيون شعب مؤيد بغالبيته للإرهاب.

فلنفترض أننا موافقون على تلك الشروط الغربية، ولنفترض أننا كعرب أو كمثقفين من أصول عربية أو كمؤيدين لحقوق الشعب الفلسطيني قبلنا مؤقتاً وتكتيكياً بوصم مقاتلين فلسطينيين بوصمة الإرهاب.

بدورنا نتوجه بالسؤال للنخب السياسية الحاكمة والنخب الإعلامية والثقافية المؤيدة لإسرائيل بالأسئلة التالية التي نتمنى العثور على أجوبة عليها، علماً بأننا نعرف تقريباً معظم تلك الأجوبة، ولكن لا بأس بافتراض أننا لا نعرف شيئاً.

أولا، منذ متى يعيش الفلسطينيون في غزة تحت الحصار الكامل أو شبه الكامل، وتحت القصف المتقطع، وفي ظروف لا إنسانية لناحية تأمين حاجاتهم وحقوقهم ؟

ثانيا، متى أعلنت حكومات إسرائيل قبولها بشكل رسمي وعلني بحل الدولتين الذي تؤيده كل دول العالم ومن بينها معظم الدول العربية وممثلو “السلطة” الفلسطينية منقوصة السيادة ؟

ثالثا، من دفن اتفاق أوسلو باغتيال إسحاق رابين رئيس حكومة إسرائيل الذي تعهد بتنفيذ اتفاق أوسلو، وهل قامت الحكومة الإسرائيلية بمتابعة تنفيذ اتفاق أوسلو بالكامل بعد الاغتيال وبتفكيك المستوطنات داخل الجزء من فلسطين الذي نص اتفاق أوسلو على إعادته إلى الفلسطينيين ؟

( الجميع يعرف أن الإسرائيليين يتابعون بناء المستوطنات بدل تفكيك معظمها كما نص اتفاق أوسلو ).

رابعا، من أين جاء معظم الإسرائيليين الذين يحاصرون الفلسطينيين في الضفة الغربية وفي غزة، ومن أين جاء الفلسطينيون؟

ألا يعرف السياسيون الغربيون أن أكثر من نصف الإسرائيليين ليس لهم جذور في فلسطين تعود لأكثر من خمسين عاماً وأن ثلث الإسرائيليين جاؤوا إلى فلسطين منذ أقل من ٣٠ عاماً قادمين من دول الاتحاد السوفياتي السابق ومن الغرب والشرق وأن أكثر من ثلث الإسرائيليين يملكون بسبورات وجنسيات دول أخرى؟

( هذا في الوقت الذي يُمنع فيه الفلسطينيون من العودة إلى ديارهم وقراهم في فلسطين التي ولدوا فيها أو ولد فيها آباؤهم وعاشوا فيها مئات السنين من دون انقطاع ).

أحد الأمثلة على الصلف والكذب نلمسه فاقعاً في كلام السيدة ناتالي لوازو المسؤولة في الاتحاد الأوروبي عندما تصرح أن العجز عن تحقيق حل الدولتين في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي لا يقع على عاتق الأوروبيين بل على عاتق الدول العربية، وقصدها تبرئة إسرائيل بالطبع، علماً أن الجميع يعرف أن من يرفض حل الدولتين هو الحكومة الإسرائيلية وليس الدول العربية التي أعلنت دائما تأييدها لحل الدولتين. والجميع يعرف عدم جدية الدول الغربية في موضوع حل الدولتين ورفض تلك الدول تطبيق عقوبات على إسرائيل التي ترفض حل الدولتين.

الدول الغربية تدير ظهرها كالعادة وتلقي المسؤولية على الآخرين دون أن تجرؤ حتى على تسمية الدولة المارقة التي ترفض حل الدولتين وتتابع بناء/توسيع المستوطنات على الأراضي الفلسطينية.

الصلف والكذب نلمسه أيضاً وأيضاً في موقف وتصريحات المسؤولين الغربيين والسياسيين الذين تدعوهم أجهزة الإعلام للنقاش والحوار على منصاتها الإعلامية. صلف وكذب ممزوجين بالعنصرية التي بالكاد تتوارى خلف التعبيرات الملتوية و المتذاكية. لا أحد يشغل باله بالسماح لإعلاميين محايدين بالكلام الحر والموضوعي وبالرد على الأكاذيب التي تُضخ على الشاشات.

يتساءل بعض “المحاورين” المتذاكين عن هوية المدافعين والمتظاهرين في الغرب تأييداً لسكان غزة الأبرياء الذين يموتون بالآلاف، يسألون عن السبب الذي يدفعهم أولئك المتظاهرين للتظاهر في الشوارع.

كل من يتظاهر في الشارع دفاعاً عن القتلى الفلسطينيين المسالمين إنما يتظاهر بدافع ديني برأيهم. إنها حرب دينية حسب قولهم وهم لا يستحون بالدفاع عن إسرائيل رغم رأيهم بأن الحرب تأخذ طابعاً دينياً وقومياً بين يهود / إسرائيليين وعرب / مسلمين. إنها دينية بالنسبة للفلسطينيين والعرب ولكنها ليست دينية بالنسبة للإسرائيليين.

لو على الأقل يقف أولئك السياسيون والإعلاميون الغربيون على الحياد في موضوع الحرب في غزة لهان الأمر، ولكنهم لا ينفكون يرددون كالببغاوات حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها. كيف؟ بإلقاء آلاف الأطنان من المتفجرات على الأبنية والمستشفيات وكل شارع وموقع في غزة. كل شيء مشبوه في غزة حتى إثبات العكس.

كل عربي أو مؤيد للشعب الفلسطيني مشبوه في نظر المسؤولين السياسيين الغربيين حتى إثبات العكس. كيف نثبت العكس؟ بالقبول بحق إسرائيل بالدفاع عن نفسها كيفما ارتأى حكامها وقادتها العسكريون، ولو كان بتدمير غزة على رؤوس القاطنين فيها وتهجير أهلها. أهل غزة ليسوا بشراً، إنهم حيوانات بشرية كما يردد حكام إسرائيل، ولا أمن للمستوطنين الإسرائيليين إلا بإبادتهم ولو باستعمال القنبلة النووية كما صرح مسؤول إسرائيلي.

ألا يسمع المسؤولون الغربيون كل هذا الهراء؟ أم أن آذانهم لا تطرب إلا للمديح والدفاع عن “حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها” ولو حصل ذلك مترافقاً مع ما يشبه إبادة شعب محاصر ومحتلة أرضه من الإسرائيليين الوافدين من أوروبا وأمريكا ودول الاتحاد السوفياتي السابق ؟

ما نريد الوصول إليه في هذه المقالة ليس اتخاذ موقف منطقي وعقلاني وإنساني من “الصراع” الفلسطيني الإسرائيلي التاريخي، وليس تبيان الحقائق للمؤرخين والساسة والإعلاميين المحترمين، ولكن تبيان المدى الذي يمكن أن تبلغه الحماقة والصلف والكذب عند فئة من النخب الحاكمة ومن يدور في فلكها في الديمقراطيات الغربية.

من المفترض أن تلك الديمقراطيات تجاوزت منذ زمن بعيد مرحلة البدائية والتعصب والانحياز الأعمى إلى “القبيلة” التي يوصم بها المنتمون إلى دول الجنوب (الفقراء، الجاهلون، المتعصبون، المتطرفون إلخ).

لكننا نكتشف أن منطق القبيلة يطغى على كل ما عداه وبالأخص على منطق العلم والحداثة والمساواة بين البشر.

يبدو أحياناً وكأن هناك قبيلة كبرى “غربية – يهودية – مسيحية – علمانية – ديمقراطية”، ينتمي اليها السادة حكام وسياسيو ونخب الديمقراطيات الغربية، وهناك قبيلة كبرى يتم الوضع فيها لكل “المتخلفين” من سكان الجنوب، المستعمَرين سابقاً، المتعصبين والمعتدلين، المتدينين منهم والملحدين واللادينيين.

المنتمين إلى القبيلة الأولى المتحضرة ينظرون إلى المنتمين إلى القبيلة الثانية (المتخلفة) من أعلى، ومن وقت لآخر يربتون على أكتافهم كما يربت الرجل العاقل الواعي والمتحضر على كتف الطفل غير الواعي، غير العاقل وغير المؤدب.

البعض من المتفهمين من القبيلة الأولى يُبدون تسامحاً من وقت لآخر، ويتعاطفون أحياناً مع نظرائهم من القبيلة الثانية بداعي أنهم لم يبلغوا سن الرشد ولم يتشبعوا بقيم الحضارة الغربية ومنطقها ومتطلباتها حتى العلماء والفلاسفة والمثقفون منهم. كيف لا وهم ذوو أصول إسلامية أو عربية متخلفة متطرفة جينياً وغير قادرة على التساوي مع علماء وفلاسفة وساسة ومثقفي الديمقراطيات الغربية المتشبعين بأفكار التنوير والحداثة وقيم التسامح والمساواة.

تلك هي مشكلة بعض “العقل الغربي” السياسي المعاصر: عدم قدرته على تجاوز عقلانيته المزيفة وانحيازاته المسبقة.

طبعاً نحن نستثني مواطني الديمقراطيات الغربية المنتمين إلى التيارات البيئية (Ecolos) واليسارية والليبرالية المؤيدة للشعب الفلسطيني في كفاحه الدائم من أجل حريته وحقه بدولة وطنية مستقلة.

حتى الكثير من أبناء اليسار القديم لم يستطيعوا تجاوز نظرتهم الاستعلائية الأبوية حيناً والعنصرية حيناً آخر.

يلزم جهد استثنائي لكي يتعالى السياسي اليميني الغربي على انحيازه “الطبيعي” إلى “جماعته” أو قبيلته” الكبرى.

كما يلزم جهد استثنائي لكي يتجاوز أبناء القبيلة الثانية مسبقاتهم ومقدساتهم وانحيازاتهم “الطبيعية”. ما يغفر للمنتمين للقبيلة الثانية جهلهم وانحيازاتهم أنهم في موقع المتلقي للصدمات الآتية من الديمقراطيات الغربية في مرحلة احتداد الصراع السياسي والعسكري حول مخلفات الاستعمار، وعلى رأس تلك المخلفات الاستعمارية احتلال الصهاينة لفلسطين من دون وجه حق اللهم إلا أنهم باحتلالهم ذلك كانوا يهربون (إلى فلسطين المحتلة من بريطانيا) من الاضطهاد العنصري والإجرام الذي تسبب به قادة بعض الدول الأوروبية بين الحربين العالميتين وحتى قبل ذلك بوقت طويل.

مشكلة “الرجل الأبيض” المستعمِر السابق أنه وريث الحروب الاستعمارية وجرائم إبادة شعوب وتجارة العبيد والقنبلة النووية، وأنه بصفته تلك يقف رغماً عنه حيناً، وبإراداته حيناً آخر، في مواجهة الرجل الأسمر الشرقي المتمسك بعاداته وتقاليده ومقدساته وعصبيته “الجينية”. وفي تلك المواجهة يتخلى الرجل الأبيض عن أقنعته البهية ولغوه الإنسانوني، ليكشف عن زيف خطابه وصلفه وعنصريته من دون خجل.

اخترنا لك