هل مازالت تداعيات ١٧ تشرين مستمرة… أم أصبحت من الذاكرة اللبنانية ؟

بقلم د. داوود فرج – ناشط سياسي وأسير محرر

حقيقة الأمر أن هذا السؤال يطرح نفسه إزاء هذا الواقع المرير الذي وصلنا اليه، لدرجة أننا بتنا نترحّم على أيام (1500)، وكأن 17 تشرين هي اللعنة بعينها كمدخل الى جهنّم، بحسب تعبير رئيس الجمهورية.

نعم برأيي أن 17 تشرين هي التي أوصلتنا الى جهنّم ولكن كيف ذلك ؟.

بعد مرور ثلاثة أعوام من تشرين أصبح هناك مسافة نستطيع من خلالها أن ننظر بموضوعية، ونستطيع ان نرى هذه المرحلة الزمنية وعلاقتها بالمسار السياسي الممتد الى العمق في بنية النظام الطائفي في لبنان.

هذه المرحلة هي مرحلة قائمة بذاتها ليس لها امتداد لبنية النظام بل هي اللّعنة له في الصميم، حيث كانت هي المساحة للتعبير الحر عند كل مواطن حر خرج على الطائفة السياسية عن كل الطائفات السياسية وفي كل المناطق الجغرافية لتعطي لونا جديدا بنكهة جديدة غير معروفة على امتداد التاريخ السياسي لبنية النظام اللبناني.

ولأن ثورة تشرين قامت بهذا الفعل فقد أجبرت ولازالت تجبر النظام الطائفي في اعادة هيكلته وفق رعاية إقليمية ودولية على حساب رغبة غالبية الشعب اللبناني.

تستطيع السلطة فعل ذلك فهي تمتلك جميع مقدرات الدولة وكل قواها الاقتصادية والعسكرية وكذلك الرعايات الدولية، وبصراحة أن السلطة وفي لعب الأدوار المتبادلة بين مكوناتها، قد استعملت جميع مقدراتها في مواجهة شعبها من التجويع الى الافلاس، الى التهجير والى الذّل بكل أشكاله وفي كل المجالات المعيشية في حياة المواطن، وهذا ما يسمّى “جهنّم”.

ظاهرة 17 تشرين لم تكن يتيمة في التاريخ اللبناني، بل سبقتها ظاهرة 16 أيلول في العام 1982 عند انطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، وأنا أذكر ذلك بصفتي شاهدا حيّا وبتجربتي الحسيّة في المشاركة بالعمل المقاوم ضد الاحتلال الاسرائيلي آنذاك، الى أن وقعت بالأسر في معتقل الخيام في العام  1990.

تلك الظاهرة كانت فريدة في مفاهيمها وأهدافها في تحرير الدولة وبناء نظام سياسي مدني غير طائفي، وهي ذاتها مفاهيم تشرين والتي أيضا تريد نظام مدني غير طائفي، وما يميّز أيضا جبهة المقاومة أنها غير طائفية وشهدائها خير دليل.

فهم من جميع الطوائف اللبنانية ومن كل  المناطق، وهي انطلقت في زمن الفراغ السياسي، أي خارج المعادلات الاقليمية، حيث خرجت المقاومة الفلسطينية من البلد وبات القرار لبناني محلي، الى أن اجتمعت قوى اقليمية ودولية في الطائف للقضاء على الدور الوطني والقرار المحلي، وبدأت الرحلة بعد الطائف في تطييف المقاومة أولا ثم إلحاقها ببنية النظام الطائفي عن طريق تسوية معادلة ( س – س ) أي المعادلة السورية السعودية برعاية دولية.

وقد التبس الأمر عند الكثيرين من اليساريين آنذاك تحت مفهوم المقاومة وضد الامبريالية، بالانجرار الى غطاء شرعي لها.

وأيضا في زمن ثورة تشرين نلاحظ بأنها انطلقت في زمن الفراغ السياسي بعد خروج السوري وبعد انتهاء المعادلة بين “س-س”، ولا زالت تداعيت ثورة تشرين قائمة، طالما لم تحصل تسوية اقليمية جديدة رغم كل المحاولات في التدخل الأميركي والفرنسي في التسوية الايرانية السعودية.

اذن نستنتج من خلال الظاهرتين بأن القرار الوطني الحر وسيادة الدولة واستقلالها الفعلي يحدث حين نخرج من المعادلات المرتبطة بالمحاور الاقليمية الدولية، كما نستنتج أيضا توق اللبنانيين الى الخروج من الطائفية السياسية لقيام دولة المواطنة لكافة اللبنانيين.

بالمناسبة، فاني أربط بين الظاهرتين لأنه الدافع نفسه كان لدي في المقاومة وفي النزول الى الشارع في ثورة تشرين، وهو أساسا كان هدفنا أثناء المقاومة الوطنية “التحرير والتغيير” أي تحرير الوطن وتغيير النظام بما يليق بأهله كل أهله الشرفاء.

والسؤال الآخر الذي يطرح نفسه هنا، هل سيكون مصير ثورة تشرين هو كما حصل مع جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، أي بالالتفاف عليها ؟.

أعتقد أن الأمر قد تغيّر عن السابق في بنية العقلية اللبنانية، حيث نجد بأن الصراع الحقيقي الآن في لبنان هو في تغيير ذهنية الشباب المتعلم، حيث نشهد مرحلة انتقالية للذكاء البشري من مستوى الذكاء المنطقي المجرد الى مستوى سيكولوجيا الذكاء المنطقي، ولتفسير ذلك بالمختصر فإن شكل الذكاء الأول يظهر من خلال العمليات الذهنية المنطقية المجردة والتي ليس بالضرورة ان ترتبط بالواقع المحسوس بقدر ما هو يرتبط بالأفكار الأيديولوجية ومدى ارتباطها بعالم الميتافيزيقا.

بينما الشكل الثاني للذكاء يظهر من خلال ارتباط الفكرة في الواقع المحسوس، وهذه سمة المثقفين المرتبطين بثورة تشرين، حيث تنطلق اقتراحاتهم العلاجية للأزمات المعيشية والسياسية والاقتصادية من الواقع المحسوس، بينما المرتبطين بالنظام والمدافعين عنه فإنهم يلجؤون الى تعليل أسباب الأزمة من خلال الخطر القادم من جهات أخرى.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، “ما خلّونا” هو تعبير عن إلصاق التهمة بالآخر، وذلك يحدث من خلال عملية اسقاطية لاواعية بدافع حفظ الذات والدفاع عنها حتى ولو كانت على خطأ، ومثال آخر يرتبط بتعليل الأزمات حين نلقي التهمة على الأمريكي بأنه هو سبب الحصار، صحيح أن الأميركي له الأيادي الطولى ولكن ذلك لا يعمينا عن سارقي وناهبي وناكبي الدولة وأهلها من السكان المحليين في بنية النظام اللبناني.

وهنا أريد أن أذكّر بأن الذين أعطوا غطاء شرعيا من المقاومين اليساريين لتكريس نظام طائفي أخشى أن يعيدوا الكرّة من جديد رغم محاولات البعض وبإسم ثورة تشرين.

اذن في الاستنتاج النهائي أرى أنه لو حصلت تسوية جديدة مرتبطة بما تبقّى من رموز السلطة السياسية في لبنان، وعلى حساب الشعب اللبناني فإننا لن نشهد استقرارا اذا لم تأخذ التسوية الجديدة بعين الاعتبار، العقلية العلمية الجديدة الناشئة عند كثيرين من اللبنانيين.

اخترنا لك