الشقيقات الثلاث

بقلم عقل العويط

العنوان ( الشقيقات الثلاث ) ليس لتشيخوف، والمضمون ليس قصّةً مسرحيّة عن ثلاث شقيقاتٍ يلتهمهنّ الضجر في الريف الروسيّ. كلّ ما في الأمر أنّهنّ طفلاتٌ لبنانيّات “قُتِلن” مع جدّتهنّ سميرة عبد الحسين أيوب، بينما كنّ في سيّارة مدنيّة بين قريتين في جنوب لبنان، في حين أصيبت الوالدة هدى عبد النبيّ حجازي بجروح.

مهينٌ للغاية، ويسحق القلب، أن يندرج الخبر برمّته (6 تشرين الثاني، هل مضى عليه الزمن؟!) في بابِ ما يُسمّى “الأضرار الجانبيّة” التي لا أحد في العالم – تقريبًا – يحسب لها حسابًا، او يزنها في ميزان.

ريماس، تالين، ليان، “أضرارٌ جانبيّة”، وقد قُتِلن قتلًا علنيًّا مشهودًا، بصاروخٍ إسرائيليّ، وهنّ في أعمار ما قبل تَفتُّحِ الورد بقليل.

فعلُ القتل، بضمّ الحرف الاوّل منه، ليس للتجهيل. فالفاعل هو هو، وفعله ليس الأوّل ولن يكون الأخير في مسلسل الإبادات الصهيونيّة، ويجب أنْ لا يكون ثمّة ما يدعو إلى الالتباس في هذا الكلام البديهيّ.

أفظع ما في هذه الجريمة أنّها جريمة فاجرة، وأنّها مرّت، وستمرّ، مرّ الكرام، شأن الجرائم الهمجيّة (الحربيّة والعنفيّة والمدبّرة و”القَدَريّة” و”العاديّة” وسواها) التي تُرتَكَب في لبنان، وشأن مَن يُقتَل هنا، ثمنًا لـ لا شيء. لـ لا شيء تقريبًا.

أستخدم كلمة “تقريبًا” حفظًا للاحتمال، ومنعًا للخطأ، وتجنّبًا للتعميم. علمًا أنّ المقتلة عامّة، وعموميّة، ولا فرق – تقريبًا – بين قتيلٍ، ومَن لا يزال ينتظر قتله، ومَن هو قتيلٌ بدون أنْ يُقتَل.

الأمّ القتيلة الحيّة، والدة الشقيقات الذبيحات الثلاث، ماذا ستفعل بحياتها بعد الآن، عندما تلتئم جروحها الجسديّة؟ كيف ستتفاهم مع “قواعد الاشتباك” في عطب الوجود الرابض على حياتنا؟ أيجب أنْ أسأل أين هو الوالد الحيّ الذبيح محمد شور من هذا كلّه، وهل – حقًّا – يمكنه وزوجته هدى (أو يريدان أو يستطيعان) أنْ ينجبا أطفالًا آخرين يعوّضان بهم عن خسارة الأميرات العذبات اللواتي ذهبن أشلاءً، وأيّ أشلاء (كما كتب بعضهم وتشدّق بعضٌ آخر بفجاجة وعنجهيّة و… همجيّة)؟!

تذكّرتُ قصيدةَ ابن الرومي في رثاء ابنه الأوسط محمد، ولا سيّما صرخته أن لا أحد من الأولاد يحلّ محلّ أحد، أو ينوب عن أحد، أو يعوّض عن أحد، أو يسلّي عن أحد :

وإنّي وإنْ مُتِّعت بابنَيَّ بعده/ لَذاكرُهُ ما حنّت النيبُ في نجدِ
وأولادُنا مثلُ الجوارح أيُّها/ فقدناه كان الفاجعَ البيّنَ الفقدِ
لكلٍّ مكانٌ لا يسدّ اختلالَه/ مكانُ أخيه من جزوعٍ ولا جلد

لا أتنطّح لأتكلّم باسم أحد، لكنّي أقف باحترامٍ جليل أمام كلّ مَن يؤمن بقضيّة، ويُستَشَهد – بوعيه وإرادته – في سبيلها. لكنّي أستهجن بقوّة مَن ينبري لاسترخاص القتلى والضحايا الذين يذهبون إهدارًا بدون أنْ يسألهم أحدٌ رأيًا في مقتلتهم وتضحيتهم، أو في الأسباب والظروف الفرْضيّة والقسريّة التي أدّت إلى تلك الخاتمة المأسويّة. يمكنني، بتهيّبٍ شديد، أنْ أسمح لنفسي بتخيّل مشهدٍ آخر، مضادٍّ لمشهد الذبح الوجوديّ الأرعن، المفروض بالقوّة الغاشمة والعارية من هذه الجهة وتلك: ريماس، تالين، ليان، يحتفلن بأعياد ميلادهنّ، ويلعبن، ويكبرن، ويتأمّلن المستقبل من وراء النافذة، ويحلمن، وينلن الشهادات العاليات، ويغرمن، ويتزوّجن، وينجبن، ويرسخن كأرزاتٍ – ما أجملهنّ – في جبل عامل، وهو أيضًا جبل لبنان.

فليقبل منّي الأهل، وكلّ أهل، عزائي القلبيّ هذا، وسلامًا إلى أرواح الشقيقات الثلاث، وإلى روح جدّتهن.
كفى!

اخترنا لك