ثالوث الشهادة و العدالة و الغفران

… الى روح الشهيد باسكال سليمان

بقلم د. ميشال الشمّاعي

يختلف مفهوم الشهادة بين البشر بحسب العقائد والأفكار التي يؤمنون بها. وبالتّالي بعضهم مَن يرى فيها سماوَةً نحو المجرّد المطلق، نحو الكلمة والحقيقة والنور، يراها شهادة للحقّ تماهيًا مع الذات الإنسانيّة المجبولة على صورة الذات الإلهيّة. وبعضهم مَن يتمثل بسير السابقين وطمعًا بمكاسِبَ جلّها يبقى على هذه الأرض الفانية. ولكنّ الشهادة مهما اختلف المنظور البشري إليها لا يمكن أن تكتَمِل إلّا إذا أدّت إلى تحقيق العدالة التي على أساسها كُوِّنَ هذا الكون. وليكن عمل الشاهد/ الشهيد مقترِنًا عن حقّ بالفعل الإيماني، لا يمكن أن تصل إلى الكمال المطلق إلّا إن سُبِقَت بالغفران.

الشهادة

يقيننا كبشر أنّنا خُلقنا للحياة بكرامة، لا بمذلّة. إمّا أن نعيش بكرامتنا وإمّا لا نريد لهذا العيش أن يصبح تعايشًا مع أمر واقع مرير مرفوض ومكروه. لذلك نحن نشهد للحقيقة أينما كنّا. ومهما كانت ضريبة شهادتنا لهذه الحقيقة باهظة لن نشهد إلّاها. وهذه الحقيقة هي حرّيّة وجودنا في هذا الشرق المكلوم، وفي هذا الوطن بالذات. لبنان الرّسالة لن يسقط. لأنّه فعل إيماننا. لا نريد أن نعيش في قوقعة وننكر حقيقة هذا الوطن الوجوديّة.

لا نقبل بأن نعود إلى ما قبل الحقيقة التي ارتضيناها لنرضي كبرياءنا. ولكن لن نقبل بأن نكون خانعين خاضعين لكبرياء غيرنا. الوطنيّة بحاجة إلى تواضع. السياسة لا تحيا إلا بالتواضع. الاستقرار لا يكون إلّا بالتواضع. الاستمرار لا يكون إلّا بالتواضع. صحيح أنّ المواجهة مع المشاريع التي حاربت الكيانيّة اللبنانيّة هي قديمة من المدّ النّاصري، إلى الشيوعي، فالبعثي، والإسرائيلي، والسوري، والإيراني، مرورًا بالفرنسي والأميركي اللذين ادّعيا أمومة للمكوّن المسيحي، وعند كلّ مفترق يطعناه غير آبيهن بهذه الحقيقة.

أمّا نحن فما زلنا هنا، كما كنّا في الماضي، وكما كان آباؤنا وأجدادنا من قبلنا، شاهدين على هذه الحقيقة حتّى الرّمق الأخير. من غير المسموح الانجرار وراء ردّات الفعل الغرائزيّة. القائد الحقيقي هو الذي يتعالى على جراحه كلّها ليحافظ على شعبه ووطنه. بالطبع قد يخطئ أحيانًا. فهو إنسان. ولكن يجب ألّا نجلده لأنّه لم يستجِب لانفعالاتنا وشهواتنا وأطماعنا الغرائزيّة. ما يجب أن نقوم به هو أن نثق بحكمة قيادته، ونعمل لتصويب هذه الحكمة، من دون أن نصلبه. فما أسهل أن نصرخ أصلبه أصلبه أصلبه ليتحكّم بنا بعد رحيله أو سجنه برأبّا جديد! بعدما أسلمنا على أوّل مفترق يوضاس الذي غمس يده في بندقيّتنا ليوحّدها بخيانته. فكانت له شجرة التين الغضّة المكافأة لندمه، ولشهدائنا المجد والخلود، والعزّة والكرامة لشعبنا. فهل يستحقّ منّا هذا الشعب هذا المقدار من التضحيات؟ وإلى متى يا ربّ تنسانا؟

العدالة

“عَادِلٌ أَنْتَ أَيُّهَا الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَكُونُ، لأَنَّكَ حَكَمْتَ هكَذَا”. الآية الخامسة من رؤيا يوحنّا تختصر مفهوم العدالة. فالكائن بحاجة إلى مُكَوِّنٍ ليكوَّن، لا بل ليكوّنَهُ؛ وهو بحاجة أيضًا إلى كونٍ ليكونَ فيه. ولا يستطيع أن يحيا كينونته إلا في كِيانيّةٍ تتّسم بالعدالة لأنّه لن يكون وحده. فالوحدة تسقط مفهوم الكينونة، لأنّها في وحدتها صمت وفراغ وموت. بينما الكينونة الحقيقيّة هي مع الآخر المختلف. عندها فقط يستطيع الإنسان أن يجسّد فعل الخلق بكينونته مع الآخر. هكذا هي فلسفة الخلق. إن لم نفهمها لن نستطيع أن نعيش حرّيّتنا في الشراكة بالخلق مع الخالق.

ولا نستطيع أن نحيا هذه الشراكة ما لم نكن عادلين بعضنا بحقّ بعض. والعدالة إن لم تقترن بالشهادة سيفرغ مضمون الشهادة من كينونة الإنسان، ومن دافعيّته لفعل الاستشهاد بشهادته لحقيقة وجوده. وبالتّالي سيفرغ الإنسان بحدّ ذاته من إنسانيّته وتصبح شهادته فعل اكتساب وليس فعل استحقاق. وشتّان ما بين الاكتساب والاستحقاق!

من هذا المنطلق، أيّ كائن لا يستطيع أن يكون إلّا إن كان حكمه عادلًا. ومَن لا يحكم بالعدل فهو جيفة تنتظر لحظة السقوط. لكن حذارِ أن نسقط قبل سقوطها! لذلك، علينا التحلّي بأكبر قدر من التسليم المشيئاتي؛ إن لم ندرك بعد هذه التجارب التي نجّانا الرّبّ منها أن نقول: “لتكن مشيئتك يا ربّ”، فهذا لعمري يعني أنّنا في غربة ما بعدها غربة!

في أورُشَليم، الَّتي كانت بكلِّ تأكيد العاصمةَ والمركز الدينيَّ الكبير للحياة في إسرائيل، كان هناك ما يُسَمَّى بالسِّنهدريم الكبير الَّذي يَحكم في القضايا الجِنائيَّة. وهو يَضمن للشَّخص الَّذي يَخضع للمُحاكمة أمورًا عديدة. فقد كانت هناك ثلاثة أمور رئيسيَّة تعرَفُ الضَّمانات الثَّلاث كالآتي: المحاكمة العَلنيَّة، والحقُّ في الدِّفاع، ووجود دَعوى قويَّة قائمة على شهادة أكثر مِن شاهد واحد. فعلى سبيل المثال في تلك المرحلة الزمنيّة، لقد خَضَع يسوعُ لِمُحاكمتين رئيسيَّتين. الأولى هي محاكمة يهوديَّة دينيَّة في المَجمَع، والثَّانية هي محاكمة رومانيَّة عِلمانيَّة سياسيَّة. والسَّببُ لأنّ اليهود كانوا شعبًا مُحتلاًّ. وكان الرُّومان هُم أصحاب السُّلطة والنُّفوذ عليهم.

فالمحكمة العلمانيّة تهرّبت من الحكم على يسوع مع إعترافها ببراءته. وغسل بيلاطس يديه. أمّا المحكمة الدينيّة فهي التي أصدرت الحكم بصلبه. وفي هذه الموضعة التي نتذكّرها بالذات، تتوارد إلى أذهاننا فرضيّة، تتحوّل بحدّ ذاتها إلى إشكاليّة كيانيّة جديدة نابعة من وجود العدالة. ماذا لو تجرّأت المحكمة العلمانيّة على النّطق بحكم البراءة؟ وماذا لو كان حكم المحكمة الدينيّة عادلًا؟ فبغياب العدالة هنا تحقّقت الشهادة، وبالتّالي تحقّق الخلاص. لكنّ هذا الخلاص بالذّات لم يكن ليتحقّق لولا المسار الذي علّمنا ربّ القوّات السماويّة على سلوكه بالقول والفعل معًا. فهل سنستطيع التّعالي عن بشريّتنا عسى نستطيع الإتّحاد الإلهي مع الخالق، لنشهد معه حقيقة وجودنا الإنساني، وتكويننا الرّوحاني؟

الغفران

فلسفة شهادتنا تختلف كثيرًا عن الكثير من الفلسفات المطروحة، لأنّ منبعها الحبّ الإلهي الذي به يستطيع الإنسان الوصول إلى حالة إفناء الذات والتي تُعرف باللغة اليونانيّة بالـ: “kenosis”. يستخدم القديس بولس هذا المفهوم اللاهوتي في الفصل الثاني من رسالته إلى أهل فيليبي في الآيات السادسة والسابعة والثامنة، فيقول: “إن المسيح، الذي كان في حالة إلهيّة، لم يعتبرها فريسة يجب الإمساك بها لتكون مساوية لله، لكنه تواضع، وأخلى نفسه، واتّخذ شكل عبد بموته على الصليب”. لأن عقوبة الإعدام بالصلب كانت مخصّصة للعبيد في الإمبراطورية الرومانيّة. بين المسيح، من الحالة الإلهية، والإنسان يسوع الناصري، هناك فراغ، وحقّ، وتواضع.

وما استطاع يسوع المسيح أن يصل إلى هذا الحدّ من إفراغ ذاته من جسديّتها الترابيّة إلّا لأنّه شهد للحقّ. ولأنّ العدالة التي ضحّى بعدم القبول بتحقيقها، والتي ضمنًا كانت مشيئته هو بذاته عندما ركع وصلّى في بستان الزّيتون، لكنّه تواضع وتنازل عن ألوهيّته المتوأمَة بإنسانيّة ماحقة، وقال للآب: “لتكن لا مشيئتي بل مشيئتك”. وعندها فقط تحقّق هذا الخلاص.

إلّا أنّ ذلك كلّه ما استطاع الوصول إليه ربّ الكون، مالك الدّنيا كلّها، إلا عندما أقدم على فعل الغفران فقال لصالبيه: “يا أبتاه اغفر لهم لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون”. وعندها فقط اكتمل ثالوث الحقيقة بعدما تحقّقت الشهادة بفعل تغييب العدالة وقدرة الغفران.

لكنّنا كبشر لو تمثّلنا بمخلّصنا لأصبحت الكرة الأرضيّة منذ أزليّتها واحة سلام! إلّا أنّنا بشر. لا نفهم يومًا ماذا يريده لنا، لأنّنا بشر. لا نعرف كيف يفكّر وماذا يخطّط لنا، لأنّنا بشر. جلّ ما نعرفُه أنّنا بشر، ولكن نظنّ أنفسنا بأنّنا أقوياء، فنقع بفخّ الكبرياء الإبليسي. فتسقط روحنا الألوهيّة من كينونتنا. وننزلق إلى مطامير التّراب، لو أنّنا أحياء نسير فوق هذا التّراب. لكنّنا نصبح عندها ترابًا فوق التّراب، ليس أكثر؛ بانتظار أن نصير ترابًا تحت التّراب، لا بل نرجع ترابًا مع التّراب.

وحده الغفران ينجّينا من ترابيّتنا الموات هذه. وحده الغفران يرفعنا من إنسانيّتنا الخرساء هذه! وحده الغفران يجعلنا متّحدين بالخالق الذي أرادنا شهودًا لملكوت حقيقته. فهل نتنازل عن كبريائنا الإنساني لنستطيع تحقيق الاتّحاد الإلهي؟

في الخلاصة، هذه حقيقة شهادتنا في لبنان. لذلك، نحن لا نُغلَبُ، ولن نُغلَبَ. ولمن لم يفهم بعد لذلك نحن لم نغلب. فما من شعب عانى ما عانيناه من ظلم وجور واضطهاد وبقي شعبًا حيًّا وحرًّا وشاهدًا للحقيقة! هذا التفكُّرُ وحدَهُ يرفعنا من إنسانيّتنا، ليس من منطلق الكبرياء البشري، بل من منطوق الحقّ الذي ما قلنا، ولن نقول سواه.

لن ننتظر العدالة بعد شهادتنا، لأنّ عدالتنا ليست من هذا العالم. لكنّنا تمرّسنا في فنون الغفران كلّها بعدما عانيناه في هذا الوطن. تعالينا لنبقى… وليبقى هذا الوطن.

اخترنا لك