كطعناتٍ في المجرّد المطلق ومحبوبة

كتب عقل العويط إلى إيفيت أشقر

لم أصافحكِ يومًا، ولم أكتب عن لوحاتكِ ولا مرّة، وإنْ عبورًا.

أسأل الآن نفسي معاتبًا نفسي، وموبِّخًا: كيف لم أحتفِ بأعمالكِ التي يليق باللّازمانيّ واللّامكانيّ أنْ يفسحا لها المقام؟! كيف لم أقل أمام الجميع إنّكِ صاحبة طريقةٍ فريدةٍ في البحث عن الطرق المفضية إلى الخواتيم اللّامتناهية؟! كيف لم أطالب المدينة بأنْ تفتح أبوابها لكِ وتمنحكِ المفاتيح؟! كيف لم أعرب عن عميق انحيازي إلى شهواتكِ الضوئيّة، إلى خطوطكِ، إلى أعاصيركِ الزاهدة المتقشّفة المكتفية بالنادر القليل، مكتفيًا بالانحياز، أيّام زمان، ومرارًا، وتكرارًا، إلى تكريم صفحات “الملحق” بعبق ضرباتكِ اللونيّة “القاتلة”، وسطوع بروقها؟!

أعفي قلمي من “الإنشاء”. وإذ يُقال عن لوحتكِ إنّها تجريديّة، أجيب نعم. لكنّها تجريديّة بتوقيعكِ الشخصيّ، بأسلوبكِ، بشخصيّتكِ، بخصوصيّتكِ، بغنائيّتكِ، بمشرقيّتكِ، بأمزجتكِ، وبرؤاكِ، نائيةً عن كلّ تأثّرٍ وتقليدٍ غبيّين، ومتمايزةً عن أيّ تجريدٍ أكاديميٍّ مرجعيٍّ، “غربيّ” أو “متغرّب”. تتجاسرين، وتجروئين، وتغامرين، وتقتحمين السعير، لتقبضي بأصابع روحكِ، بلاوعيكِ، وبنضارتكِ، على صواعق عشقيّة، آنَ يطيب لها أنْ تخترق القفص الصدريّ (أو السطح التشكيليّ) وتستقرّ في غياهب القلب، في النياط، لتنمو، وتتفتّح، وتشرق، كصباحاتٍ لامتناهية.

وأنتِ، في أعمالكِ، كمَن تريدين (بعفويّةٍ منتشيةٍ لاهيةٍ ومدهشة) أنْ تلاحقي شهبًا ونيازكَ وغيومًا، أسرع من الصوت والبصر، تتعرّى وتتجرّد وتتصفّى وتسيل. كمثل نيرانٍ تهبّ فجأةً، و”بوحشيّة”، لتطرد الوقت والمكان، وتحتلّ، وتحرق، وتتجمّر، وتلتهم، فلا يبقى إلّا ما يذكّر بطفولةٍ لاواعية، أو بطعنةٍ محبوبة، حيث ثمّة يدٌ، هي يدكِ، تهرع في الخفاء وعلى حين غرّة، وحيث فرشاتكِ، تحفظها من الفرار والضياع.

أأقواسٌ نشّابة؟ نعم، وبلغةٍ واثقة وحاسمة.

وبسببٍ من ذلك، أنتِ، في أعمالكِ، لا تثرثرين، ولا تثقلين كاهل السطح، ولا تشقعين أغراض الفنّ، وتراكمينها، بل تكتفين من “موائد” الطعام التشكيليّ ومن “أشكاله” و”أنواعه” بتقشّف الخبز والزيتون، وتتركين للفراغ أنْ يمتلئ بذاته، وللون الكثيف أنْ يفعل فعله على “أرض” القماشة، وأنْ يكون شريكًا جوهريًّا وأساسيًّا، فاعلًا، مؤثّرًا، وغير حياديّ. وكلّما أمعنتْ لوحاتكِ في مثل هذا الخيار الصعب القائم على الاقتصاد والاختزال، أدرك المتلقّي أنّها لن تكون في أيّ حالٍ من الأحوال “فقيرة”، وأنّ “القلّة” هنا هي الغنى الذي يُغني عن كلّ إضافاتٍ مرهقة وثقيلة وغير مؤاتية.

كم أنّ لوحاتكِ، يا سيّدتي، تترفّع عن تكديس التفاصيل، لأنّها عارفة بالقلب أنّ العين تكتفي بـ”برهةٍ” تستلزمها نظرةٌ قاتلة، وأنّ المرء لا يحتاج في الضرورة إلى موتٍ مؤبّد ليكون قتيلًا.

لم أكتب عنكِ يومًا، لأنّي ربّما تهيّبتُ، وتفاديتُ أنْ تخدش كتابتي الضئيلة مواهب الصعق في تجريداتكِ العابرة بضربات فرشاتكِ اللّاواعية صوب المطلق. كنتُ أخاف حقًّا أنْ أعكّر صفو تلك الضربات الذاهلة عن الآن، والهنا، والهناك، مدركًا في أعماقي، أنّ أيّ صوتٍ، وأيّ حركةٍ، ربّما من شأنهما أنْ يلهيا تلك الضربات عن شهقاتها ومراميها.

مسألتُكِ شعريّة لا تطيق الإفاضة، ولا تتحمّل التردّد. حارّة، ساطعة، بارقة، خاطفة، ولا تتحمّل أوزار المراوحة والإقامة في السجون التي هنا، أو هناك. ومسألتكِ الشعريّة هذه لا تضرب أخماسًا بأسداس، ولا تخشى المغامرة، ولا النتائج المترتّبة عليها.

أنتِ معتزلة من زمان، لكنّ لوحاتكِ تحضر دائمًا كسهامٍ أُطلِقت من أقواسٍ نشّابة، وهي ضرباتُ نرد، وطعناتٌ، وهي طعناتٌ في المجرّد المطلق ذات فاعليّةٍ لازمنيّة. وهي محبوبة، وتقتل، وإنْ أصابتْ (منّي) مقتلًا!

اخترنا لك