قبلَ يقظة الرابع من آب 2022 بعدَ دغشة الرابع من آب 2020

بقلم عقل العويط

الموتى ماذا يفعل الموتى في مثل هذا الوقت ؟

يتسكّع الموتى بين الخرائب، في نواحي المرفأ، في جهات الكرنتينا، في مار مخايل، في الجميزة، في ساحة الشهداء، في الأسواق القديمة، في الرميل، وفي متاهات الأروقة، وعلى الشرفات، وفوق أسفلت الأرصفة، وفي الشوارع المنسيّة. الموتى يموتون؟ وإنْ ماتوا، هاماتهم ترفرف على السطوح المتهدّمة، بين الغيوم الواطئة. ينظرون بعيونهم المغمضة، بأحلامهم المجهضة، ولا يقولون شيئًا.

الموتى لا يهاجرون، لا يغيبون، لا ينسون، لا يموتون، لا ينتقلون.

حيواتنا المهيضة، بيوتنا المريضة، كتبنا المشلّعة، أفراحنا اليابسة، تتقمّص أجسادهم المحطّمة.

الموتى، وإنْ ماتوا، لا يموتون.

لكنْ، كيف يحيا شعبٌ بأجسادٍ، بأرواحٍ هالكةٍ. كيف يذهب إلى أعماله، كيف يمشي، كيف يتنقّل، كيف يتنفّس، كيف ينام منتظرًا غده المأسويّ الأبشع من أمسه الأبكم.

كلّما خرج زورقٌ إلى البحر، كلّما رمى صيّادٌ شبكته في يمّ الميناء، عاد بسمكٍ غفيرٍ هو في الغالب الأعمّ بعضٌ من آهات الغرقى الذين اختفوا في هواجس الركام.

قد تسقطين أيّتها الأهراءات، قد لا تسقطين. هذا أو ذاك لن يُحدِث فرقًا كبيرًا في موازين الليل والنهار. فالشمس ستظلّ تشرق وتغيب، والبحر سيظلّ يذهب ويجيء، والقمر إذا شاء أنْ يرتدي غيمةً أو يغتسل، ففي مقدوره أنْ يظلّ يرتدي، وأنْ يظلّ يتعرّى ليغتسل، وينتشي.

ذلك كلّه يحدث، وغيره، من دون أنْ تتغيّر أوقات القيلولة عند الحكّام، أو شهوات التلذّذ بالفرائس ورائحة الدماء. لن تعتري الحاكمَ، ولا الإرهابيَّ، قشعريرةُ تردّدٍ أو ندم. يندم فقط، يتردّد فقط، مَن يخشى محاكمةً أو اتّهامًا. مَن يتوقّع أنْ تقوم قيامة الموتى، بسبب تضافر أعداد الموتى في المقابر، وعدم قدرة الضرائح على الإنصات إلى الأكثر من الموت، من تمزّقات الأنين.

السماءُ، هنا، لن تسقط على الأرض، ولا الأرض سترتفع إلى السماء. قد تبكي نجومٌ، قد تنطفئ أخرى. قد يعبر مسيحٌ بشجرة تين في دغشة الرابع من آب، فلا يعثر فيها على حبّة تين. كيف يعقل أنْ تتيه شجرة تينٍ عن نضج ثمارها في عزّ اللهيب. أيّ أسىً يعتري شجرةً كهذه إذا ضنّت بطيبها على قتيلٍ.

أوجاعٌ تلو أوجاعٍ تلو أوجاع. لا أحد هنا تعنيه الأوجاع. لا أحد يعرف هنا ما هي الأوجاع. وماذا يصير إذا بلغت الأوجاعُ التي تترامى ها هنا، مسامعَ الله في السماء السابعة، أو إذا نزل نبيٌّ من معراجه إلى السماء الأولى، ليرى أسباب الضوضاء المتصاعدة أصداؤها من جوارات المرفأ في بيروت. لن يشعر حاكمٌ، ولا إرهابيٌّ، بوخزة ضمير، لن يعيد النظرَ في صفقةٍ تساوم على الحياة على الرغيف على ولادة جنين.

قيلَ، سيعدّون العدّة هنا لجنازاتٍ مقبلة. لمقابر مقبلة. سيبحثون عن خلاءاتٍ لم تخطر في بال، وقد يردمون جهاتٍ مكتومةً من البحر، من البرّ، وقد يرتقون الغيوم، ليصنعوا منها ضرائحَ جماعيّةً للأمل، للحلم، للفرح، للبحبوحة، للحقول، للكتب، للأغاني، للموسيقى، للعصافير، للهديل، للسكارى، للرافضين، للمختلفين، للفتيان، للفتيات، للوعول، للأطفال، لسلال العنب والتين، لخرير السواقي، للمقاهي، لشجر الصفصاف والحور، للرسّامين الذين يخترعون الأفق الأزرق، للشعراء. وهلم.

كلّ شيءٍ ممكنٌ ومُتاحٌ في هذا الماخور الجمعيّ.

لكنْ، ليس من أبدٍ لحكمِ حاكمٍ. ليس من أبدٍ ليدِ إرهابيّ.

لحظةٌ واحدةٌ، لحظةٌ غفيرةٌ واحدةٌ من شأنها أنْ تحوّل مقبرةً إلى بستان، وركامًا إلى شرفة، ودمعةً إلى نهر، وحطام مرفأ ليكون نداءً للموتى، ومنارةً للمدينة القتيلة، للبحر اليتيم.

لحظةٌ واحدةٌ، لحظةٌ واحدةٌ غفيرةٌ من شأنها أنْ تجعل الموتى الذين يموتون كلّ يوم، ويجوعون كلّ يوم، ويتوجّعون كلّ يوم، وييأسون كلّ يوم، وينتحرون كلّ يوم؛ لحظةٌ واحدةٌ غفيرةٌ كهذه من شأنها أنْ تقيم الموتى، وتصنع لنا الحياة.

بعد التقاعد

بعد التقاعد، لا أمكنة يذهب إليها الحكّام والجنرالات والإرهابيّون والقَتَلَة لطرد الضجر عن نياشينهم، عن كراسيهم الدهريّة، ولا لتزجية ما تبقّى من العمر وهواجس الدم.

أيّ مقابر تحت الشمس

تؤوي جرائمهم المشعّة

كمثل العبوات الناسفة

كمثل نيترات الأمونيوم

والقنابل الذريّة ؟

بعد التقاعد،

ماذا يفعل الحكّام والجنرالات والإرهابيّون والقَتَلة

بأيديهم العاطلة عن العمل

بشرور عقولهم

بمطابخهم وأوكارهم

ماذا يفعلون

برتابات أيّامهم الموحشة ؟

وأين

ثمّ أين

ثمّ أين

أين يدفنون مخطّطاتهم الجهنّميّة التي لن تبصر النور ؟!

المكتبات والكتب القتيلة تترجّل لتنتقم وتثأر

أقامت مكتبة أنطوان في أسواق بيروت المضرّجة حفلًا أدبيًّا مهيبًا قبل أيّام، أعلنت فيه إدارتُها إقفالَ فرعها هناك، الذي كان غدر به القاتلُ في الرابع من آب 2020 غدرًا تخطّى ثمنَهُ المادّيّ الى ثمن الغدر المعنويّ، الغدر بالكتب، الذي لا سقف له ولا ثمن. فروع المكتبة الإثنا عشر المفتوحة في نواحي بيروت ولبنان، شأنها شأن المكتبات الأخرى، ستظلّ ترفض الموت، وتثأر وتنتقم. هذا المقال تحيّة للكتب وللمكتبات مطلقًا.

ملعونٌ كلُّ مَن يقتل كتابًا أو مكتبة. موتًا يموت، حريقًا أو غريقًا أو “شنطلةً” على الطريق. ففي ساعةٍ لا يتوقّعها (القاتل، أيًّا يكن)، يأتي مَن يطرق بابه، ويسأله أنْ يسدّد الحساب الذي لا بدّ من تسديده (مع الفايظ)، وبمفعولٍ رجعيّ.

يجب أنْ أعود إلى 4 آب، إلى الرابع من آب 2020، إلى الساعة السادسة وسبع دقائق من ذلك اليوم الشرّير، حين أصاب المكتبةَ ما أصاب بيروت، والناسَ والبيوتَ والحياةَ في بيروت.

ومرّةً ثانيةً أقول إنّي أعود إلى الرابع من آب 2020: ليس للعويل والنواح والبكاء والرثاء، بل لتذكير القاتل وشهود القتل بأنّ مقتلة بيروت لن تمرّ مرور الكرام، وإنْ بعد مئة عام وعام. عينا بيروت (هابيل) ستظلّان تلاحقان عينَي القاتل (قايين) وإنْ بعد ألف عام، وأكثر من ألف عام وعام. وستقتصّان من القاتل، ومن شريكه، ومن المتواطئ معه، ومن الساكت عليه، ومن الغافل عنه، بالسبل والطرق والأساليب المناسبة. وما أكثرها.

لا أنتظر فعلًا (ثأريًّا) من أحد، وإنْ كثُر الذين يطالبون بحقّ الثأر، بحقّ الانتقام.

الثأر، على كلّ حال، والانتقام، لن يكون على طريقة نيترات الأمونيوم، ولا بالسلاح الدنيء، ولا بالقتل، ولا بالإرهاب، ولا أيضًا وخصوصًا ولا سيّما لا بالعنف الذكوريّ (علمًا أنْ لا عيبَ البتّة، ولا انتقاص من أحد (البتّة أيضًا)، في أنْ يُسمَّى هذا النوع من العنف عنفًا بطريركيًّا. صه).

لمَن لا يعلم، ولمَن أيضًا يريد أنْ يتجاهل لئلّا يعلم، أقول له إنّ الكتب – كما المكتبات – تثأر وتنتقم، وهي من تلقائها تثأر وتنتقم، عندما يتعرّض جسمها للاغتصاب، وروحها للمقايضة، وكراماتها للذلّ وللإهانة.

هذا ليس من البهورة في شيء. أحيلكم على وقائع التاريخ من أجل التهيّب والاتّعاظ : إسألوا – على سبيل المثل – مكتبة الإسكندريّة، واسألوا اليونان وكتب اليونان وفلاسفة اليونان، واسألوا الأعمى الذي هو الرائي الكبير خورخي لويس بورخيس، وعرِّجوا قليلًا على “مكتبة بابل” و”كتاب الرمل”، ثمّ اسألوا البروفسور أمبرتو أيكو و”اسم الوردة”، يحدّثكم عن سمّ الكتب، ولعنة الكتب، وثأر الكتب. وهلمّ.

القتل ممجوجٌ ومكروهٌ ومرفوضٌ مطلقًا، فكيف بقتل الكتب والمكتبات التي لا تملك من “أسلحة” للدفاع عن نفسها، لردّ القاتل، لشلّ يديه وعينيه و… قلبه، إلّا أجسامها والروح والحبر والورق والصفحات والكلمات!

لكنْ، مَن في مقدوره (أيّ قاتلٍ في مقدوره؟)، في بيروت ولبنان، وسوى بيروت ولبنان، أنْ يحمي نفسه من ثأر الموتى إذا كانوا كتبًا ومكتبات؟ أين يختبئ من الكتب، من كوابيس الكتب، من لعناتها، من سمّها، إذا “قرّرتْ” أنْ تبثّ السمّ في هواء القاتل، في طعامه، في شرابه، وفي حلمه ؟!

هل تتذكّرون كيف انتقمت المكتبة الوطنيّة في بيروت، في ساحة النجمة في بيروت، وكيف ثأرت لنفسها، وكتبها، بعدما اجتاحتها الميليشيات والسرّاق وقطّاع الطرق ؟

كلّ ما نعرفه أنّ لا أحد من هؤلاء الزعران والبلطجيّة نجا بجلده، ولا بنفسه.

يضحك جيّدًا من يضحك أخيرًا.

لكنْ، متى يضحك أخيرًا ؟

… عندما تترجّل الكتب القتيلة، المكتبات القتيلة (تيمّنا بعنوان كتاب “الفارس القتيل يترجّل” للزميل الياس الديري)، عن صهواتها القتيلة، لتثأر وتنتقم و… تحيا.

لبنان

كحبرٍ يندلق
يصير كتابًا.
كلعنةٍ شعريّةٍ تلعن مَن يُضرِّج الحبرَ
مَن يضرّج لبنان.
ثمَّ هي كحبرٍ
ككتابٍ يستفيق
ثمّ كمثلِ تَوقٍ مستجابٍ
يخالف نبوءات اللعنة التي حلّت بالبلاد.
صفحاتٌ هي
كجبالٍ في الليل
كجبالٍ في بيتِ لبنانَ
تهتدي بأقدارها
تهتدي بلبنان.

الشعراء

اسألوا الشعراء الموتى. اسألوا الشعراء الأحياء.
أساتذة الأمل هم الشعراء.

اخترنا لك