الشرعية.. إلى الجنوب درّ

بقلم د. ميشال الشمّاعي

لقد اكتفى اللبنانيّون من الاستماع إلى سرديّات معاناتهم العديدة. وما يريدون سماعه هو الحلول النّاجعة التي تستطيع أن تؤمّن لهم وطنًا يليق بتضحيات الذين سبقوهم، ويكون على قدر طموحات وأحلام الذين سيخلفونهم. وهذا ” اللبنان” لن يكون أو يقوم بوجود يوضاسيّين بحقّ القضيّة اللبنانيّة. فما هي السبل لدرء شرّ هؤلاء؟ وهل ما زال الأمل موجودًا لاستعادة الوطن الذي نحلم به؟

لعلّ المعاناة التي استجدّت على أهل الجنوب وأرضه اليوم هي التي طفت على الواجهة أكثر من غيرها. وإيماننا بأن لا قيامة للبنان من دون تحرير الجنوب، أوّلًا من الذين رهنوه للمشاريع الايديولوجيّة الاستعماريّة الاستيطانيّة الجديدة، متذرّعين بمقاومة العدوّ المشروعة في حال غياب الدّولة؛ وثانيًا بتحرير السيادة من عمليّة الاحتلال السيادي التي نجح “الحزب” بتثبيتها بالتّعاون مع خلفاء المقدّم سالم وابن الصّبحا، بعدما منّت على هؤلاء بعباءة الذميّة. وشتّان ما بين الذين يُكْرَمُونَ بعباءة الكرامة، وأولئك الذين يزحفون ليستعطوا عباءة الذمّيّة!

جنوبنا اليوم جريح. ينزف دماءه قرابينَ على مذبح الارتهان للمشاريع الإمبراطورية البائدة. والأهمّ في مأساة الجنوب اليوم ومعه مأساة لبنان كلّه، أنّ أيًّا من اللبنانييّن الذين يعتبرون لبنان أوّلًا لم يؤخذ برأيه. بل استفقنا جميعنا وسماء الجنوب تشتعل على حين غرّة، إكرامًا لغزّة.

ولا يحاولنّ أحد حرف كلامنا بتخويننا إنسانيًّا أوّلًا. فلسنا نحن من اقتلعنا إنسانيّتنا منّا وأنكرنا مأساة تفجير مرفأ بيروت، ولا قتّلنا أطفال سوريا إكرامًا لأحد! لا يمكن لأيّ عاقل ألّا يتعاطف مع دماء الأبرياء، ولاسيّما الأطفال. ولكن أن نتعاطف شيء، وأن نضحّي بوطننا شيء مغاير تمامًا. وهذا ما نرفضه.

أمّا الذين يعتبرون أنّ كرامتهم بميليشيا أو منظّمة مصنّفة إرهابيّة تدافع عنهم، خير من وجود دولة سيّدة حرّة مستقلّة، فهؤلاء أقلّ ما يمكن اعتبارهم “خونة” بحقّ القضيّة اللبنانيّة، وعملاء لسفارات المشاريع التوسّعيّة الامبراطوريّة التي باتت تقتات على قارعة التّاريخ.

من البديهي لهؤلاء أن يعملوا ليل نهار على نحر الدّولة وقتلها. فبموتها حياتهم، وبحياتها موتهم. لذلك، لن نقاتلهم مهما حاولوا. ولن نعطيهم شرف مواجهتنا في الميدان. فالخنازير تستمتع بالوحول، فيما إذا واجهتها تتّسخ أنت! ميداننا الوحيد هو الدّولة اللبنانيّة بمؤسّساتها. وسلاحنا الأوحد هو تلك الورقة التي سيسقطها الأحرار في صندوقة الاقتراع لإسقاطهم.

لكن حذارِ، لا يقلّلنّ أحد من قدرتنا على الدّفاع عن كرامتنا وقضيّتنا الأسمى: القضيّة اللبنانيّة. فمتى نجحوا هم بقتل الدّولة، فعندها سنكون نحن النّواة التي ستعيد إحياءها. ولمن لم يقرأ التّاريخ القديم أو الجديد بإمكانه ذلك.

فما إقدامهم على إرغام الحكومة، ولو شكليًّا لأنّها حكومتهم، بتحمّل تبعات قرارهم العبثي بإعلان الحرب “الاستباقّية” لمساندة غزّة، إلّا المزيد في الإمعان بقتل الدّولة. وكلامنا هذا لا يعني أنّنا ضدّ الانسان الجنوبي الذي ليس مسؤولًا عمّا يصيبه، إلّا على قدر دعمه لهذا المشروع. قضيّتنا الإنسان والحرّيّة ولبنان.

هذا ثالوثنا. فلنا ثالوثنا ولهم ثلاثيّتهم. ولن نقبل باستبدال أيّ أقنوم من ثالوثنا بما يتناسب حياةً لمشروعيّتهم ولمشروعهم. دعم الجيش اللبناني هو الذي يثبّت الجنوبيّين في قراهم وأرضهم. وهكذا يستطيع عندها جيشنا الدّفاع بكلّ قواه عن المواطنين اللبنانيّين كلّهم الملتزمين بلبنانهم أوّلًا. ومَن لا يعتبر لبنان وطنه، فمساحات الكون شاسعة له.

ولعلّ أصدق توصيف للواقع الذي وصلنا إليه اليوم بفضل هذه السياسات العبثيّة، ذلك الذي صدر عن الموفد الفرنسي جان ايف لودريان الذي قال لمن التقاهم إن “لبنان السياسي” سينتهي أذا بقيت الازمة على حالها من دون رئيس جمهورية ولن يبقى سوى “لبنان الجغرافي”. على أمل أن يكون الغرب قد أصيب بالصحوة الأخويّة لما ارتكبته يداه، ولاسيّما بعد القرارات التي على أثرها حدث ما حدث بالوجود المسيحي الحرّ طوال هذا القرن الذي تلا مرحلة انتدابه للشرق.

ولعلّ الديبلوماسيّة الغربيّة قد أدركت جيّدًا لماذا يريد المتسلّطون في لبنان أن يقتلوه سياسيًّا؟ فبكلّ بساطة كما ذكرنا: موت لبنان السياسي يعني حياتهم في جغرافيّته سياسيًّا، وحياة لبنان في جغرافيّته سياسيًّا تعني موتهم سياسيًّا وجغرافيًّا.

وما اعتبار لودريان أيضًا أنّ ” كلمة حوار غير ناجحة ولنستبدلها “بالمشاورات” اي consultations بدلاً من négociations”، إلّا تأكيدًا على الموقف السيادي الذي ما فتئ يناضل لأجل القضيّة اللبنانيّة وحدها. ولو أنّ الرد أتاه بأنّ “رئيس مجلس النواب نبيه بري لن يقبل”. يقيننا أنّنا سنعبر عباب هذا اليمّ الفارسي كما عبر أسلافنا في يمّ المماليك والسلطنة العثمانيّة وصولًا إلى مستنقعات العروبة الزائفة واليساريّة المدمّرة حتّى مستنقع منظّمة التحرير، وليس انتهاء ببادية الشام. سنعبر حتمًا إلى لبنان الجديد.

اخترنا لك