١٧ تشرين و المسار التاريخي للاعتراض اللبناني (2)

بقلم د. حسن يونس – كاتب وباحث في الفلسفة السياسية

وضع اتفاق الطائف حداً للحرب الأهلية اللبنانية على أسس طائفية ومذهبية مغلّفة بعبارات وطنية تحت رعاية عربية إقليمية لدول تعادي الحرّيات والتطور والبناء العصري في دولة يُراد لها أن تبقى رهينة لمصالحهم وصراعاتهم واستثماراتهم الأيديولوجية ونفوذهم التسلطي. سحقت الرعاية السورية وسط صمت عربي مريب وتواطؤ دولي كل معارضة علمانية وطنية حقيقية وألحقت الجميع بمشاريعها وتوجهاتها. انتشت القيادات التابعة لها التي تحولت من كونها أحزاب ميلشياتيه إلى قوى مناضلة ثورية ترسم مستقبل الأمة العربية والإسلامية وحتى البشرية جمعاء في وقوفها بوجه المد الاستعماري المتمثل بإسرائيل التي تحتل جزء من الأرض اللبنانية.

سُمح بإعادة إعمار وسط بيروت كشكل من أشكال التوازن الإقليمي وارتضت شخصيات وقوى تقليدية الاكتفاء بتنمية الجانب الاقتصادي وإعادة بناء المؤسسات الرسمية ظناً منها أنّ ذلك سيخفف التشنج والاحتقان والصراع والتعبئة الأيديولوجية. توهّم هؤلاء أنّ بإمكانهم إعادة بناء مقومات الدولة العصرية وإطلاق ورشة الإعمار والازدهار في أجواء من الإحباط واليأس الذي ساد في أوساط المسيحيين وقواهم السياسية الذين تحوّلوا إلى أهداف مشروعة للقتل والتنكيل من أجل إخضاعهم للمحتل الشقيق وأتباعه.

انفجرت مرات عديدة مظاهرات حاشدة واعتراضات على الممارسات الاحتلالية بأدوات لبنانية، وجرت عمليات قمع واعتقال واسع لآلاف من الشبان المنتفضين وتنكيل وإرهاب وكم الأفواه. اتخذت تلك التحركات والعمليات طابعا طائفيا صارخا، ولم يلتفت إليها الجانب الإسلامي المنتشي بالمكاسب التي أغدقها عليه اتفاق الطائف. كان الشريط الحدودي ما يزال محتلا من قِبل إسرائيل وبالتالي أُطلقت يد القوى المذهبية في امتلاك الأسلحة وتطوير ميليشياتها المدعومة من النظام السوري بشكل صريح لمقاومة إسرائيل. وظفت سوريا هذه الورقة دائما وفق ما يلائم تطلعاتها وأهدافها من دون اعتبار لمصالح اللبنانيين وحقوقهم السيادية. وُصف كل صوت اعتراضي على النظام السوري أنذاك بمثابة تبرير ودعم للاحتلال وتآمر على المسلمين والعرب وخيانة للوطن وأهله وإذعان للإمبريالية العالمية.

لكن سوء الأحوال الذي طبع أداء الإدارات الرسمية وهزالة عملية الحوكمة والانتهاك العلني السافر لكل مظاهر السيادة اللبنانية والتوازنات الطائفية، وتعيين رؤساء جمهورية تابعين وخاضعين للإرادة السورية ومطامحها والاستخفاف بحقوق اللبنانيين ومصالحهم وتطلعاتهم من جهة، وتفشّي الفساد والنهب والزبائنية والمحاصصة والتشبيح وتعطيل كل عمل يعيد إحياء الدولة من جهة ثانية، أدى إلى تنامي الشعور بهشاشة المنطق الطائفي والمذهبي، وازدياد الوعي بأنّ الوحدة الوطنية والعيش المشترك هما الضامن الوحيد للوقوف بوجه المطامع الأجنبية سواء كانت إسرائيلية أو سورية أو إيرانية.
انعكس الشعور والوعي المذكوران للتو على سلسلة من التحركات الشعبية والاحتجاجات الاجتماعية والبيئية والاقتصادية والسياسية، فبرزت مجموعات من المجتمع المدني وناشطيه ومثقفيه.

استطاعت هذه التحركات أن تتحرر بنسبة كبيرة جدا من وصمة الطائفية والمذهبية والمناطقية إلى أن بلغت ذروتها في انفجار ثورة 17 تشرين الأول من عام 2019. يمكن اعتبار هذه الثورة نسخة جديدة معدّلة عن ثورات وتحركات متكررة قوامها الانصهار الوطني وبناء دولة المواطن الحر وليس الرعية التابع والمستعبد، عمادها حكم القانون المدني والمؤسسات العصرية والحريات الليبرالية والعدالة الإنسانية واحترام التعددية والاختلاف والتنوع في كافة الميادين الحياتية الفردية والمجتمعية. ما يميّز حراك 17 تشرين 2019 أنه أنضج من سابقاته وأعمق لناحية الوعي الوطني والسياسي والمجتمعي العام في البلاد. لذلك انخرطت أعداد غفيرة من الشعب اللبناني فيها وهي خليط من فئات نخبوية وطبقات وشرائح وجمعيات متنوعة من كافة المناطق اللبنانية، واستجابت لها جماهير معدومة ومهمشة وفقيرة، والتحق بها ما تبقى من الأحزاب المعارضة التي استبعدتها السلطات الحاكمة.

أثار الالتفاف الشعبي العارم من كافة الانتماءات والطبقات والاتجاهات هلع المنظومة الحاكمة بكافة أركانها ومواقعها. عملت جاهدة على إثارة الغرائز الطائفية والمذهبية، وحشدت عبيدها ورعاياها، ومارست أشكالا وضيعة من الاستفزازات والتحريضات، وكالت التهم التكفيرية والتآمرية والتخوينية من دون جدوى. اضطرت غالبا إلى الكشف عن مخططاتها التآمرية الهمجية، ودفعت بمناصريها وشبيحتها إلى الاعتداء وممارسة الارهاب اليومي الصريح على المجموعات الثائرة بغية استدراج الثائرين إلى اقتتال طائفي ومذهبي ومناطقي. باءت محاولاتها بالفشل الذريع وأدرك اللبنانيون مدى استعداد أركان المنظومة الحاكمة إلى ارتكاب كل الموبقات واللجوء إلى القمع والإرهاب استنادا إلى طبيعتها المافيوزية التي هي نتاج حتمي وتلقائي لتطور عملها الاستبدادي التوتاليتاري القائم على القهر والنهب والمحاصصة واقتسام الغنائم وانتهاك القوانين والدساتير والأعراف، وبث الفساد وشراء الذمم لتعميم ثقافة التسوّل والتضليل والتشبيح بكافة أشكاله الفردية والجماعية كآلية جوهرية في إدارة البلاد ضاربة بعرض الحائط مصالح الناس وحقوقهم وأمنهم ومصاالحهم واستقرارهم واقتصادهم ومستقبلهم.

وعي ثوار 17 تشرين الطبيعة المافيوزية لقادة المنظومة الحاكمة القائمة على الإرهاب والعنف وافتعال الصراعات بين أركانها لإلهاء الناس عن حقيقة ما يجري. لذلك أجادت منابر الثوار في الابتعاد عن الشعارات الكبيرة الفضفاضة التي يلزم إنجازها مئات السنين على أقل تقدير. رفع الثوار مطالب إحقاق القانون وتثبيت سلطة الدولة المتحررة من إرهاب الميليشيات ومحاربة الفساد وإصلاح القطاع العام الذي أُتخم بأكثر من 50 ألف موظف لا يعملون ولا يحضرون إلى عملهم حسب بعض التقديرات المتخصصة. هؤلاء ليسوا سوى متسوّلين أو أذرع غليظة لكل من يتجرّأ ويعترض على زعيم من زعماء المنظومة. يمكن أن نضيف إليهم أصلا الأعداد التي أدخلها أركان المنظومة الحاكمة في القطاع العام، وبالتالي يصبح عددهم يفوق أعداد القوى الأمنية الشرعية المسلحة، ناهيك عن جماعات مسلحة بأعدادها الكبيرة على معظم الأراضي اللبنانية الجاهزة دوما لكل ما يلزم في توطيد حكم الإرهاب والنهب والارتهان والفساد.

طالب الثوار باحترام استقلالية القضاء وفق مبدأ فصل السلطات المنصوص عنه في الدستور للتخفيف من الجرائم الصريحة المتفشية في البلاد. أثبتت الأحداث والوقائع مرة جديدة أننا في مواجهة منظومة مافيوزية لا تقيم وزنا لأي قضاء أو قانون. ألغت كل ما يمت للعدالة بصلة وشطبته من قاموس الحياة السياسية اللبنانية. سطت المنظومة الحاكمة على ودائع الناس وجرّدتهم من كل ما يستر عريهم وعنفوانهم وكرامتهم أمام الجوع والمرض والبطالة، وسدّت عليهم المنافذ التي تمكنهم من بناء مستقبل أفضل لأبنائهم بعدما عجزوا عن توفير الأموال اللازمة لتعليمهم في الخارج، ووزعوا غالبية المقاعد الدراسية الجامعية المحلية لزبانيتهم وعبيدهم وميليشياتهم في الداخل. فجروا العاصمة ومرفأها بلمح البصر وتحدّوا القضاء والقوى الأمنية مهدّدين من يهمه الأمر بأن يلقى المصير الأسود نفسه إن تجرّأ أحد من الأمنيين على الاقتراب من المطلوبين للعدالة والتحقيق.

لا أمل ولا مستقبل لهذا البلد وأهله إلا على أساس وحدة الشعب اللبناني بكل اختلافاته وتنوعه وتعدد اتجاهاته الثقافية والمجتمعية والسياسية انطلاقا من الحرص على لبنان وشعبه قولا وعملا أولا. هذه مسؤولية الشعب الواعي لدوره وواجباته في خدمة ذاته وغيره، هذا الشعب يجب أن يأخذ زمام المبادرة كمواطن حر محترم في بلاده. يجب أن يبقى السياسي في مركز الحكم تحت إشراف ومراقبة ومحاسبة المواطن الواعي لحقوقه ومسؤولياته الرافض إلى اعتباره عبدا أو رعية في قطيع. عندما تغمض أعين الشعب عن المسؤولين السياسيين فإنهم سرعان ما يتحوّلون إلى ذئاب ولصوص وسفاحين ولو كانوا قديسين وأنبياء. لا يجب أن نقبل بأن نكون رعايا وتابعين لمزاج قادة يزجون بنا في معارك وصراعات دونكيشوتية بحثاً عن أمجاد مرَضية تُبنى على جماجم الأبرياء والناس المسالمين. الانصهار الوطني المنشود سيثبت أن اللبنانيين جديرون بوطن حر وسيد مستقل، وطن العلم والمعرفة، وطن المحبة والسلام. وطن لا يستطيع فيه قادة متهورون ومضطربون عصبيا تحريض أبناء المذاهب والطوائف على بعضها البعض.

اخترنا لك