خمسة أفعال وثالوث حزبي للالتزام

قمة الارتقاء الحزبي… الشهادة للحق !

بقلم د. ميشال الشمّاعي

عام 1986 كتب شارل مالك: “جوهر الحرّيّة هو إمكان التغيير، فإذا حُرم الإنسان من هذه الإمكانيّة أصبح عبدًا. كما أنّ من التناقض فرض الحرّيّة على الإنسان. فعليه، تحوي الحرّيّة إمكان عدم التغيير وتصميم الإنسان على البقاء حيث كان دائمًا. لكن الحرّيّة لا تكون صحيحة ما لم تحوِ إمكان التغيير، فكلا الخيارين يجب توفيرهما، إنّ استعباد الجسد فيه الكثير من الخطورة، لكن استعباد العقل هو أكثر خطورة”. كان ذلك المقال الأخير قبل وفاته. ونُشر باللغة الإنكليزيّة في مجلّة الأمم المتّحدة Bulletin of HumanRights.

انطلاقًا ممّا قاله المفكّر شارل مالك الحرّيّة هي عماد الفكر. ويقيننا أنّه من دون حرّيّة يتجرّد الفكر الإنساني من حقيقته ليتبنّى مفاهيم قد لا تمتّ إلى إنسانيّته بشيء؛ وبالتّالي يخرج عندها الإنسان من مفهوم أنسنته، فيتحوّل بفعل فكر ما لا يشبهه إلى سلعة تنحدر به إلى حدّ التشييء. وهذا ما يصل في حدّه الأقصى بدناوته إلى استعباد الرّوح إلى حدّ قتلها.

الالتزام السياسي هو أساس العمل الوطني. والسياسة هي من أنزه الأعمال التي ممكن أن يمارسها إنسان على وجه الأرض. والعمل السياسي لا يرتقي بذاته إلّا بالممارسة الصحيحة وفي المكان الصحيح. ولا تستقيم الحياة السياسيّة في بلد ما إلّا بوجود الأحزاب السياسيّة. ولا يعني وجود أحزاب فاشلة سقوط مبدأ الحياة الحزبيّة.

انطلاقًا من ذلك، لا بد من الاعتراف بأن غياب المشروع السياسي الواضح لهذا الحزب أو ذاك، لا يعني القبول بأن تتحوّل الأحزاب السياسية الى “غسالة” للعقول البشرية، بسبب غياب المشروع السياسي الواضح لهذا الحزب. الحياة الحزبيّة هي ضرورة في المجتمعات لأنّها تستطيع أن توفّر حياة سياسيّة سليمة. وذلك لأنّه من المفترَض أن يحمل الحزب مشروعًا سياسيًّا لا أن يضمّ جناحًا عسكريًّا، وإلّا تحوّل إلى منظّمة إرهابيّة، أو بأفضل حال إلى ميليشيا مسلّحة.

التحرّر يبدأ بالالتزام بالأفعال الخمسة

إمكان التغيير يحرّر الانسان من عبوديّته. وهذا الباب فتحه الآب من البعد النُّهيويّ للإنسان ليعيد مصالحته مع روحه التي فقدها بسوء التزامه تجاه أخيه الإنسان. وهنا بالذات يبدأ الالتزام السياسي الذي يتجلّى بأبهى حلله في الالتزام الحزبي الذي يرتقي بالإنسان حتّى إخلاء ذاته وإفنائها. هذا الالتزام بالذات يتّخذ البعد الألوهي بين الإنسان وأخيه، والبعد القاديشي عندما يلتزم الإنسان بقضيّة يؤمن بها ويعمل لها، فالإيمان بالقضيّة وحده لا يعني شيئًا إن لم يقترن بالأعمال. والإطار الصحيح للعمل الحزبي يكون في المؤسّسات التي ينتجها هذا الحزب. وأيّ حزب لا يتحوّل إلى الفعل المؤسّساتي يصبح عاقرًا غير منتِج؛ وبالتّالي يعيش على أمجاد الماضي لأنّه لا يملك شيئًا ليعيشه في حاضره، ولن يستطيع بناء أيّ شيء لمستقبل أبنائه.

فالحزب النّاجع هو الحزب الذي يستطيع أن ينقل محازبيه من التّلقين الإيديولوجي – العقائدي الصرف إلى الفعل المؤسّساتي – النّاقد؛ فيصبح المحازب فيه قادرًا على أن يلتزم بالأفعال الخمسة فيقف ويصغي ويحفظ ويمارس ويشهد. وهكذا يكون ظهوريًّا – وجوديًّا – كِيانيًّا بالفعل والعيش والممارسة. ويترجم قناعاته الحزبيّة بثالوث حزبي قوامه: المعرفة والممارسة والالتزام.

الالتزام الحقيقي هو من المنظور الكياني الوطني

نوقُّف المحازب أمام ما يطرحه حزبه يعني أنّه يفكّر في هذه الطروحات. وبالتّالي يتخلّى عن التّبعيّة العمياء، ويرتدي وشاح الحرّيّة. أمّا الإصغاء فلا يمكن أن يمارسه إلّا الذي يملك الحسّ النّاقد مترجمًا بذلك عدم تبعيّته العمياء. والحفظ لا يتوفّر إلّا عند مَن يقدّر الأمانة التي وضعت بين يديه. على أن المسار الحزبي لا يكتمل إلّا بالممارسة. فلا يكفي أن تكون فقط مناصرًا هامشيًّا تؤيّد على القطعة وبحسب الأهواء والمصالح الذاتيّة، بل يجب أن تلتزم سياسيًّا بالمسار الحزبي الذي يقنعك من المنظور الوطني الكِياني.

قمّة الالتزام تتجلّى بالشهادة للحقّ، لأنّ هذه الشهادة وحدها كفيلة بأن تحرّرنا كبشر، وتعتقنا من كلّ أدران المادّة الثقيلة التي نحملها، وتدفعنا في لحظات ضعفنا لأن نكون أقوياء نحن والحقّ. فمَن يملك الحقّ يكون في الأكثريّة، ولو كانت صامتة حينًا؛ لكن يقيننا أنّ هذا الصمت سيُكسَر بفعل القوّة التي يملكها الحقّ ولا يملكها سواه.

وبإتقان المحازب للأفعال الخمسة يرتقي إلى قمّة الالتزام الحزبي. ويجب ألّا يترك أيّ مكان في قلبه للخوف ما قد يمنعه من الارتقاء إلى أعلى درجات الشهادة التي قد تبلغ حدّ الاستشهاد ليشهد للحقّ، وللحقّ وحده. فشهادة الإنسان لا تكون لإنسان آخر، أو لنهج اقتصاديّ، أو اجتماعي أو حتّى سياسيّ؛ بل شهادة الإنسان لا تتحقّق ولا تكون إلّا إن شهد للحقّ. وهذه قمّة الارتقاء الحزبيّ.

الحرّيّة الحزبيّة المسؤولة هي الخلاص

الحرّيّة لا تُفرَض. إمّا أن تؤمن بالحرّيّة إيمانك بكيانك الإنساني المنبثق من الصورة الإلهيّة الحرّة، وإمّا لن تستطيع أن تشعر بعبق الحرّيّة يعصف في كيانك هذا. فمحاربة الأفكار والإيديولوجيّات والعقائد التي تستعبد بعض البشر، لا تكون بالقوّة العنفيّة، لأنّ هذا النّوع من القوّة يجب أن تحتكر ممارسته الدّولة وحدها ضمن ضوابط إنسانيّة وحسب، وإلّا تحوّلت بحدّ ذاتها إلى دولة إرهابيّة، تقتل شعبها تحت ذرائع فرض القانون باستعمال هذه القوّة المفرطَة، بل محاربة هذه الأفكار تكون بنمذجة الحرّيّة أمام كلّ إنسان لم يعشْها يومًا.

وهنا تكون الصعوبة على الإنسان الحرّ في عدم الانزلاق بحرّيّته إلى دركات الانحطاط والقبح الإنساني. بل على العكس تمامًا؛ يجب أن يرتقي بحرّيّته السياسيّة إلى قمم المسؤوليّة والرّقيّ والاحترام والانضباط من دون الانزلاق إلى التزلّم والتزلُّف والإسفاف إلى مجاري الأقدار بهدف الوصول. فليس كلّ وصول وصولًا، بل أحيانًا هذا الوصول يجرّد الإنسان من حرّيّته، ولو بقي ضمن ضوابط التزامه الحزبي – السياسي. فالخلاص لا يكون إلّا بالحرّيّة الحزبيّة المسؤولة.

الأحزاب السياسيّة ضرورة وطنيّة

الأحزاب السياسيّة ضرورة وطنيّة لتستقيم الحياة السياسيّة في أيّ بلد من بلدان العالم كلّه. وإلا عدنا بالتّاريخ إلى زمن الإقطاع على مختلف أشكاله، وحتّى ذلك الديني المقيت الذي لفظته الأديان نفسها عبر التّاريخ. قد يعيد التّاريخ نفسه بفعل إعادة بعض أحداثه، لكنّه لا يرجع إلى الوراء. فمسار التّاريخ واضح وواحد أحد. لا يسير تاريخًا مع الشرّ ضدّ الخير. فلا نهر يملك القرار بتغيير مجراه. وهكذا مجرى التّاريخ واضح. لكنّ الإنسان فاعل يؤثّر ويتأثّر بمسار التّاريخ.

فالأحزاب تمتلك قدرة التنظيم، وقوّة الضغط المجتمعي، وفعل التغيير بيدها. لا تستطيع حركات التغيير قلب المسارات. وإن نجحت في بعض المحطّات التّاريخيّة فلا آفاق باستمرارها إلّا من بوابة الأحزاب السياسيّة، لذلك معظم حركات التحرّر في العالم تحوّلت إلى أحزاب سياسيّة لتضمن استمرار مشروعها السياسي وتحقيقه بنجاح.

المسارات الزعيمتيّة ساقطة والحزبيّة الحقيقيّة مستمرّة

لا يستطيع أيّ مسار لزعيم ما أن يستمرّ إلا من خلال نهج سياسيّ يرسيه. وهذا النّهج لا يتثبّت إلّا عبر الأحزاب السياسيّة. وكلّ ما يحقّقه بشخصه معرّض للانهيار عند أيّ هفوة شخصيّة قد يرتكبها. وهذا ما شهدناه عبر سقوط مسارات زعيمتيّة في تاريخنا المعاصر والقديم. لذلك، إن تحوّلت الأحزاب السياسيّة إلى واجهة ليمارس عبرها الزّعيم جبروته، وليحقّق شوفينيّته ونرجسيّته فهي حتمًا ستسقط، وليست أحزابًا قابلة للحياة.

أمّا الأحزاب التي تواكب حركة التّاريخ بعيدًا من أهواء بعض الذين يتبوّؤنها، فهي التي تؤمّن صيرورة استمرارها، وسيرورة استقرارها. وهكذا تستطيع أن تحقّق الاستقرار على الاستمرار لأطول مدى زمنيّ ممكن. وهذا ما يسمح بأن تحقّق نجاحات في تطبيق مشاريعها السياسيّة التي يجب أن تبقى بحالة تيويمٍ دائمٍ، لتواكب متطلّبات العصر، وتطلّعات المنضوين فيها.

وهذا هو مسار القوّات اللبنانيّة، حركة سياسيّة عبر التّاريخ، تأطّرت في حزب سياسيّ منظّم، بعيدًا من فكرة الزّعيم المؤلَّه والملتزِم أو المناصِر المؤلِّه. تحترم القائد المؤسّس الذي ضحّى بذاته حتّى الاستشهاد. وتقدّر الرّئيس الذي يقود السفينة لأنّه لم يبخل بحرّيّته الخاصّة لتبقى القوّات حرّة في بحر هذا التّاريخ. لا تسير إلّا باتّجاهه. وترفض السير بعكسه. لذلك ستبقى وستستمرّ، مهما اختلفت الأسماء أو الرئاسات.

لا خلاص لنا في الشرق عامّة، وفي لبنان خاصّة، إلا في بناء أحزاب متجدّدة. تستطيع إعادة إنتاج ذاتها بذاتها، وفاقًا لديناميّة تنظيميّة، في إطار مؤسّساتي، بعيدًا من شخصانيّة الزّعيم ونرجسيّته وشوفينيّته. فحبّ الذات يسقط الذات. والعنجهيّة في التعامل مع الآخر، والإزدراء به، والحطّ من شأنه، والتّحامل عليه، والاستعلاء، والنّظرة الدّونيّة لهذا الآخر، واغتياله معنويًّا بتشويه صورته أمام الملأ؛ هذه كلّها تسقط الذات في أتّون الحسد والكره والحقد. وهناك تحترق هذه الذات، ولا ينفعها البكاء وصريف الأسنان.

خلاصنا بحياة حزبيّة وطنيّة سليمة. نتعالى بها. نرتقي بإنساننا. نبني مؤسّسات تليق به. تكون على قدر تضحيات الذين سبقونا. وعلى قدر طموحات الذين هم من بعدنا. أمّا إن لم ننجح بذلك، فهذا يعني أنّنا لسنا جديرين بالإنسان المخلوق على صورة الله فينا!

اخترنا لك