حالة النكران في المجتمع الشيعي الجنوبي : بين تحديات المقاومة وأزمات الداخل

بقلم محمود شعيب – كاتب وناشط سياسي

حالة النكران التي يعيشها المجتمع الشيعي وخاصة في جنوب لبنان، تعد إحدى الظواهر المعقدة والمتشابكة، والتي تتداخل فيها العوامل السياسية، الاجتماعية، والدينية. هذه الحالة من النكران تظهر بشكل واضح في كيفية تعاطي المجتمع مع التحديات الداخلية والخارجية، ومدى استعداده لمواجهة الحقائق الصعبة التي يعيشها.

جذور حالة النكران

المجتمع الشيعي، وخاصة في الجنوب اللبناني، مر بتجارب تاريخية قاسية. فمنذ عقود طويلة، عاش هذا المجتمع في ظل تهميش اقتصادي، اجتماعي وسياسي من الحكومات المتعاقبة. ومنذ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، تحولت المقاومة إلى جزء أساسي من هوية هذا المجتمع، مما عزز الشعور بالانتصار الذاتي والقدرة على مواجهة التحديات، سواء من الداخل أو الخارج.

إلا أن هذا الشعور بالنصر، وتحديداً بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب في عام 2000، قد تولّد عنه حالة من الغطرسة أحيانًا، وربما أيضاً حالة من النكران لكل المشاكل الداخلية التي بدأت تتفاقم. البعض في المجتمع الشيعي الجنوبي لا يريد أن يواجه الواقع الذي يشير إلى أن المقاومة – رغم أهميتها في مواجهة إسرائيل – ليست الحل لكل مشاكله، سواء الاقتصادية أو الاجتماعية.

السياسة والنكران

النفوذ السياسي لحزب الله في الجنوب اللبناني ولدى الشيعة بشكل عام هو عامل رئيسي في تكوين حالة النكران. الحزب قدم نفسه كمدافع عن الشيعة والمقاومة ضد الاحتلال، وهو ما أكسبه تأييدًا واسعًا من المجتمع الجنوبي. ومع ذلك، تحول الحزب تدريجيًا من حركة مقاومة محصورة في الصراع مع إسرائيل إلى قوة سياسية تسيطر على الكثير من مفاصل الدولة اللبنانية.

هذا النفوذ السياسي والاقتصادي أعطى شعورًا بأن الحزب هو الحامي الأوحد لمصالح الشيعة، وبالتالي يصعب على الكثيرين في هذا المجتمع قبول أي نقد للحزب أو التفكير ببدائل سياسية. حالة النكران هنا تتمثل في عدم الاعتراف بأن الحزب، رغم إنجازاته في المقاومة، قد ساهم في تفاقم المشاكل الداخلية، سواء من خلال انخراطه في الصراع السوري أو من خلال استغلال النفوذ السياسي بشكل أدى إلى فساد مؤسسي.

النكران الاقتصادي والاجتماعي

في الوقت الذي يعاني فيه لبنان من أزمة اقتصادية خانقة، كان المجتمع الجنوبي، كغيره من المناطق، يعاني من تبعات هذا الانهيار. ومع ذلك، يبقى هناك رفض لدى الكثيرين في هذا المجتمع للاعتراف بأن الانهيار الاقتصادي لا يرتبط فقط بالعوامل الخارجية، بل هو نتيجة أيضًا للفساد الداخلي وسوء الإدارة من جميع الأطراف السياسية، بما في ذلك القوى التي تدعي تمثيل الشيعة.

حالة النكران هنا تعكس عمق الأزمة، حيث يتمسك الكثيرون بفكرة أن المقاومة والولاء للحزب هي الأولوية المطلقة، بينما يتم تجاهل القضايا الحياتية مثل البطالة، التدهور التعليمي، وتدهور الخدمات الأساسية. هذا النكران يجعل من الصعب على المجتمع الجنوبي مواجهة الحقيقة المرة بأن النصر العسكري أو السياسي لا يعني تلقائيًا رفاهية اقتصادية أو استقرارًا اجتماعيًا.

الدين ودوره في تعزيز النكران

الدين، بطبيعة الحال، يلعب دورًا هامًا في المجتمع الشيعي. لكن هناك بعض الخطابات الدينية التي تعزز من حالة النكران بدلاً من مواجهتها. التمسك بالشعارات الدينية والشهداء والتضحية يصبح في بعض الأحيان أداة لتجنب مواجهة الواقع السياسي والاقتصادي. يتم تصوير المقاومة على أنها قضية مقدسة لا يمكن المساس بها، ومن ينتقدها يعتبر خائنًا أو خارجًا عن الدين.

هذه الاستراتيجية، رغم أنها قد تحمي المجتمع من الانقسامات، إلا أنها تعزز حالة الجمود وتمنع أي محاولة للتفكير في حلول عملية للمشاكل الحياتية.

نتائج حالة النكران

حالة النكران التي يعيشها المجتمع الشيعي، وخاصة الجنوبي، لا تؤدي إلا إلى تفاقم الأزمات. فعندما يرفض المجتمع الاعتراف بالمشاكل الحقيقية ويصر على إلقاء اللوم على الأعداء الخارجيين فقط، فإنه يحد من قدرته على التحرك نحو الحلول. هذه الحالة تعني أيضًا أن أي محاولات للإصلاح الداخلي أو النقد الذاتي تكون ضعيفة، مما يؤدي إلى استمرار الفشل في مواجهة التحديات.

كما أن استمرار حالة النكران تعزز الانقسام داخل المجتمع اللبناني ككل، حيث يصبح من الصعب على المجتمع الشيعي الدخول في حوارات بناءة مع باقي الطوائف والأطراف السياسية، طالما أنه لا يعترف بمسؤولياته الداخلية عن الأزمات.

الختام

حالة النكران التي يعيشها المجتمع الشيعي، وخاصة الجنوبي، هي نتيجة لتعقيدات تاريخية وسياسية ودينية. ورغم أن المقاومة كانت جزءًا أساسيًا من تاريخ هذا المجتمع، إلا أن الاستمرار في تجاهل المشاكل الداخلية لن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمات. المطلوب هو مواجهة الحقيقة بشجاعة، والاعتراف بأن النصر السياسي أو العسكري لا يكفي لتحقيق الاستقرار والازدهار.

اخترنا لك