وصيّة السّيّد للسّياديّين !

كتب جان عزيز
@JeanAziz1

مضت على هذه الأحداث 20 سنة كاملة. لكنّها تتكرّر اليوم بأدقّ تفاصيلها، مع تبديل بسيط في بعض اللاعبين خارجياً، وبقاء الكثير من الوقائع والسياقات، وحتى الأسماء، كما هي، بكلّ أسرارها وخفاياها. فهل تتكرّر النتائج؟!

سنة 2004 بدا أنّ قراراً أميركياً اتُّخذ بإنهاء تلزيم لبنان لنظام الأسد. والأسباب لا علاقة لها طبعاً بلبنان إطلاقاً. بين حربَي العراق وأفغانستان، والتقارب الأميركي الإيراني مذّاك، والتنسيق اللصيق بين قاسم سليماني ورايان كروكر.

كلّ ذلك بمعزل عن الحكي مع الأسد الابن الوريث حديثاً. فارتاب حاكم دمشق من الفيلم الأميركي الجديد. رفض مماشاته. فاتُّخذ القرار ذات عشاء في النورماندي، بين بوش وشيراك، بإخراجه من لبنان لمعاقبته على عدم التزامه دفتر شروط التلزيم، وتغريمه بما يلزم.

أدركت الحركة السيادية اللبنانية خطورة اللحظة وأهمّيتها في آن، فأطلقت حراكاً واسعاً لتجنيب لبنان عواقبها الممكنة، ولتحصين البلد في لحظة ممكنة لاقتناص سيادته.

جُنَّ جنونُ المنظومة السورية اللبنانية الحاكمة، فأطلقت كلّ أبواقها. كتاباتٌ ورسائل وعراضات. كلّها لاسترضاء واشنطن وحتى تل أبيب.

تسويقات وتسويغات من نوع: خروج جيش البعث سيعني حرباً أهليّة في بيروت. لا بل قد يعني انقلاب الإسلاميين على السلطة في دمشق. وبين إسلاميّي دمشق وفوضى بيروت من سيحمي حدود إسرائيل؟!

قيل هذا الكلام حرفيّاً. ولتطبيقه على الأرض، كان لا بدّ من إطلاق شياطين التحريض المذهبي والطائفي كافّة.

سريعاً ركّبت المنظومة “لقاءً تشاوريّاً” نيابياً تابعاً لرستم غزالة، ثمّ “خليّة” إسلامية معروفة بجماعة الأحباش نظّمت تظاهرة بالسواطير، وصولاً إلى تهديد حلفاء دمشق أنفسهم.

صمد وليد جنبلاط كما في كلّ أزمة. لا بل غطّى لقاء وطنيّاً عريضاً في البريستول.

نسّق رفيق الحريري بعمق مع الحركة السيادية، حتى قيل إنّ نسبةً من دوافع اغتياله كانت نتيجة هذا الموقف.

ظلّ الوسط الشيعي مفتوحاً أكثر على التحريض البعثي. لفّقت المنظومة ملفّات لبعض وزراء نبيه بري. حصلت استدعاءات واعتقالات لإيصال الرسائل. لكنّ النبيه لم ينضمّ إلى جوقة أبي عبدو.

نسّق رفيق الحريري بعمق مع الحركة السيادية، حتى قيل إنّ نسبةً من دوافع اغتياله كانت نتيجة هذا الموقف

الحزب لم يكن معنيّاً ولا متورّطاً في كلّ ذلك. لكنّ التلاقي معه كان ضرورة للحركة السيادية. أُحرج ممثّلوه في أطر التنسيق التي كانت قائمة ومعتمدة، مثل “الفريق العربي للحوار المسيحي الإسلامي”، فقرّر السياديون اللجوء إلى قنوات أخرى.

اللّقاء مع السّيّد فضل الله

هكذا قرّروا الذهاب إلى السيّد محمد حسين فضل الله. دقائق قليلة كانت كافية للتأكّد من تلاقي وجهات النظر. لا بل فهم سماحته سريعاً أنّ المطلوب تحصين الوحدة الوطنية، وعدم استخدام البيئة الشيعية وقوداً في بازار الأسد مع الأميركيين.

انتهى اللقاء بوصايا من السيّد لزوّاره: ما يحصل اليوم هو تكثيفٌ للزمن واختصار للمسافة. ولحظة التكثيف والاختصار في حيوات الشعوب والأوطان تظهر كلّ ردود الفعل الآيلة إلى الزوال. لذلك أقول لكم تابعوا عملكم ولا تخافوا.

وهكذا صار حتى خرج السوري، والتقى اللبنانيون قبل أن يضيعوا أثمن فرصة سيادية على مدى نصف قرن.

شيء من السياق نفسه يتكرّر اليوم كأنّ هناك قراراً أميركياً بإنهاء الوصاية الإيرانية على منطقة كاملة.

والأسباب لا علاقة لها طبعاً بلبنان، بل بقراءة أميركية إيرانية متناقضة كليّاً مصالحيّاً.

واشنطن أوباما، المستمرّة مع بايدن وهاريس، تفكّر في أنّ الملالي خدعوها. فالاتّفاق معهم كان على التالي: أوقفوا النوويّ وخذوا سوريا سنة 2015.

ثمّ أضافوا إليه، أوقفوا النوويّ وأعطوا إسرائيل البحر، وخذوا العراق سنة 2022.

الآن بعد 7 أكتوبر، يبدو الملالي وكأنّهم يتصرّفون على قاعدة: نريد من غزة إلى اليمن، وفوقهم النوويّ أيضاً. وهو ما جعل الأميركيين يقولون علناً: كفى يعني كفى.

في المقابل تبدو قراءة الملالي مناقضة. يفكّرون أنّهم اتّفقوا مع أوباما على تجميد النووي، مقابل تسليط عملائهم على كلّ المشرق.

الآن يضرب نتنياهو عملاءهم على رؤوسهم. ويتركه الأميركي يهدّد النووي مباشرة. وهو ما جعل الملالي يعتقدون أنّ الهدف إسقاط نظامهم برمّته.

الفرصة الآن هي لاستعادة لبنان، وطناً ودولة، من بين براثن صراع الأميركي والإسرائيلي مع الإيراني

لذلك قرّروا المواجهة، بدءاً من ذلك المتراس الأماميّ المعدّ أصلاً لمهمّة الحرق والتدمير الذاتيّين، المسمّى لبنان.

هنا يبرز المبدأ الثابت بأنّ الأزمة تولّد فرصة. وكلّما كانت الأزمة عميقة، كانت الفرصة كبيرة.

والفرصة الآن هي لاستعادة لبنان، وطناً ودولة، من بين براثن صراع الأميركي والإسرائيلي مع الإيراني. تماماً كما هي الفرصة لانتزاع فلسطين دولة سيّدة، في السياق نفسه.

المطلوب من اللّبنانيّين

فما هو المطلوب لذلك؟

إدراك لبناني لتاريخية اللحظة ومسؤوليّاتها، وإجماعٌ، أو ما يقاربه، على أنّ الأولوية المطلقة هي للبنان.

وهذا ما يقتضي توافر التالي :

1- رئيس للجمهورية من هذا المنطلق والتطلّع. رئيس من بين مهامّه الكثيرة أن يعيد المسيحيين في وجدانهم وسلوكهم إلى خيار الدولة الواحدة، على أن تكون دولة تشبه لبنان الميثاق لا غير، فيعيدهم مقتنعين إلى دستور الطائف لا إلى أوهام عودة مستحيلة إلى ما قبله.

وهذا يفترض عقلنة كلّ أجنحتهم. فلا جنون هنا. ولا ذمّية هناك. ولا بهلوانيّات أنانية على طريقة الرباعيّ الجديد.

2- زعامة سنّيّة تلاقي الرئيس في هذا النهج. زعامة كاملة الشرعية لبنانياً والاحتضان الفاعل عربياً، بما يحصّن بيروت سريعاً، قبل أن تفاجئها سيول المطر بكوارث النزوح وما يحمل من مكبوتات دفينة.

ثالثاً- استمرار الدعم لنبيه برّي في ما يقوم به. وهو ليس بسيطاً ولا عاديّاً. من قرار وقف النار، خلافاً لإملاءات خارجية متبادلة ومتناقضة، وصولاً إلى بيان القمّة الروحية في بكركي أمس الأول. هذا البيان الذي نصّ على “الدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة وقرارها الحرّ”، دولة “تمسك بالقرار الوطني (…) وتكون صاحبة السلطة الوحيدة على كامل التراب اللبناني”.

كلام كهذا، بمشاركة ممثّل نبيه بري في بكركي، وببصمته الشخصية على البيان، ليس تفصيلاً أبداً. ويستحقّ كلّ الدعم للاستمرار في هذا الاتّجاه بالذات لحماية طائفة الشهداء، وتضحيات الشهداء، وصون دمائهم ذخراً للبنان موسى الصدر لا لأيّ مطامع خارجية.

انتهى اللقاء بوصايا من السيّد لزوّاره: ما يحصل اليوم هو تكثيفٌ للزمن واختصار للمسافة

4- استمرار وليد جنبلاط، كما كان قبل 20 سنة، متطوّعاً متفرّغاً لواجب المحرّك الأوّل لهذه الدينامية الوطنية، وصولاً إلى الحلّ المطلوب.

ختاماً، تبقى ملاحظة ضرورية جداً ولا بدّ منها. نُسب سهواً وخطأً في بيان قمّة بكركي إلى يوحنّا بولس الثاني قوله عن لبنان إنّه “رسالة سلام ومحبّة”. فيما الصحيح أنّه قال عن هذا المكان الفريد، حرفيّاً ما يلي: “لبنان أكثر من بلد. إنّه رسالة حرّية، ومثال تعدّدية، للشرق كما للغرب”.

من لا يفهم عمق هذا الكلام وبُعده، لا جدوى من البحث معه في أيّ شأن لبناني، أو حتى إنساني آخر.

اخترنا لك