فقد لبنان وجبل عامل والحوزات العلميّة للشيعة الإماميّة في العالم في أوائل شهر نيسان 2016م. علماً من أعلام الفقه والإجتهاد برحيل شيخنا الأستاذ العلاّمة آية الله الشيخ مفيد الفقيه العاملي ( قده )، عن عُمر قارب الثمانين عاماً، قضاها في البحث والتدريس والتأليف والتصنيف في رحاب النّجف الأشرف وجبل عامل. وفي تحمّل المصائب والأحزان واحتسابها تقرباً إلى الله تعالى.
أ ـ من هو الشيخ الفقيه ؟
هو نجل آية الله الشيخ علي بن آية الله الشيخ يوسف الفقيه العاملي ( قده )، مؤسس ورئيس المحاكم الشرعيّة الجعفريّة في لبنان بالتعاون مع وزير العدل السيد أحمد مصطفى الحسينيّ في العشرينيات من القرن الماضي أيام الإنتداب الفرنسي في لبنان، حيث أصبح المذهب الجعفريّ بذلك من المذاهب الرسميّة المُعترف بها في لبنان والبلاد العربيّة.
مواليد النّجف الأشرف سنة 1355هـ الموافق لسنة 1937م. وبعد سنة من ولادته عَادَ به والده مع أفراد الأسرة إلى بلدته حاريص ـ قضاء بنت جبيل، حيث درس شيخنا المفيد في مدرستها الإبتدائيّة ومن ثُمّ في الثانوية الجعفريّة في صور ـ وبتشجيع من والده ودعاء ومباركة من جدّه آية الله الشيخ يوسف الفقيه. سافر إلى النّجف الأشرف لطلب العلوم الدينيّة سنة 1952م. حيث حظي برعاية وعطف عمه آية الله الشيخ محمد تقي الفقيه ( قده )، درساً وتدريساً ومن ثُمَّ زوَّجه بكريمته وأسكنه معه في منزله.
كما شارك عمه في همومه بتأسيس وبناء المدرسة العامليّة اللبنانيّة لطلبة العلوم الدينيّة في النّجف الأشرف. وكذلك في إدارة هذه المدرسة والإهتمام بها.
كما شاركه في الإنابة عنه والتبليغ والإرشاد الدينيّ في مدينة قلعة سكر كوكيل للإمام السيّد محسن الطباطبائيّ الحكيم ( قده ) وللإمام السيّد الخوئيّ ( قده )، في الستينيات من القرن الماضي.
وقد وفقه الله تعالى في النّجف الأشرف لدراسة المقدّمات والسطوح على كبار العلماء. كعمه آية الله الشيخ محمد تقي الفقيه ( قده )، آية الله السيّد اسماعيل الصدر ( قده )، آية الله الشيخ علي الحلي ( قده )، آية الله الشهيد السيّد محمد باقر الصدر( قده )، ودراسة بحوث الخارج كانت على الإمام السيّد محسن الطباطبائيّ الحكيم ( قده )، وعلى الإمام السيد الخوئي ( قده )، وعلى الإمام الشهيد السيّد محمد باقر الصدر ( قده ).
ب ـ معرفتي بالشيخ الفقيه ( قده )
منذ أن حللت في النّجف الأشرف مع أُسرتي الصغيرة في شهر أيلول 1971م. الموافق لشهر شعبان 1391هـ. كان إسم شيخنا آية الله الشيخ مفيد الفقيه ( قده )، من الأسماء اللامعة والمعروفة بالفضيلة والأستاذيّة والتقوى والإحترام والتقدير بين اللبنانيين وغيرهم.
كما كان منزله في النّجف الأشرف محطَّ رحال كبار العلماء اللبنانيين الّذين يزورون العراق والنّجف الأشرف كآية الله السيّد هاشم معروف الحسنيّ ( قده )، وآية الله الشيخ محمد جواد مُغنيَّة ( قده )، الذي تعرّفت عليه عن قرب في منزله سنة 1975م. حيث كتبت عنه في مجلة «العرفان» في العددين الخامس والسادس من المجلّد الثامن والسبعين، الصادرة في تموز وآب سنة 1994م.
في الصفحتين 115 ـ 116 من المجلة الآتي : « لم أوفّق بالتعرف على الشيخ مغنية والتكلّم معه إلاّ في عام 1975م. في النّجف الأشرف، في منزل أستاذي العلاّمة الشيخ مفيد الفقيه إذ إجتمع في ذلك المنزل قرابة الأربعين ما بين طالب وأستاذ من اللبنانيين. إجتمعنا للترحيب بالشيخ مغنية، وللسلام عليه، والإستفادة منه. وقد ألقى بنا كلمة مؤثِّرة عن واجبات طالب العلم ـ على ما أظنُّ ـ وقد طرحت عليه ( قده )، بعض الأسئلة مُستفسراً وَمٌستفيداً فأجابني ( قده ) على ذلك ثُمّ سألني عن إسمي، وعن مسقط رأسي، وعن دراساتي؟ فأجبته.
وبعد مدّة زرت أستاذي الإمام الشهيد السيّد محمد باقر الصدر ( قده ) حسب العادة إذ كنت أتردد عليه أحياناً وأزوره في أيام الخميس والجمعة في منزله في منطقة العمارة فأخبرني ( قده )، أن الشيخ محمد جواد مغنية أُعجب بذكائي وهو يتوسم مني خيراً.
فمن أسباب ثقة سيّدنا الإستاذ الإمام الشهيد السعيد محمد باقر الصدر ( قده ) بكاتب هذه الذكريات، هو شهادة آية الله الشيخ محمد جواد مغنية بي خيراً، وتوسّمه بي الصلاح، ولأنّ الشيخ مغنية كان أقرب القضاة والعلماء إلى قلب الشهيد السيّد الصدر ( قده ) ».
وكذلك كانت ثقة شيخنا الأستاذ آية الله الشيخ مفيد الفقيه وشقيقه العلاّمة الشيخ يوسف ( قده )، حيث درست على الأخير قسماً من الجزء الثاني من كتاب « كفاية الأصول » ومن خلال انشغالي أيضاً بالبحث والمباحثة مع ابن عمه العلاّمة الشيخ محمد جواد الفقيه.
ومن خلال المصاهرة مع العلاّمة المرجع آية الله الشيخ محمد تقي الفقيه العامليّ بإقتران ابن عمي فضيلة الشيخ عصمت عباس عَمرو في أواخر سنة 1977م. بكريمة العلاّمة المرجع الفقيه ( قده ) وهجرته معها إلى النّجف الأشرف.
كما وفقني الله تعالى أيضاً في عام 1977م. لحضور دروسه على كتاب « مستمسك العروة الوثقى» للإمام الحكيم ( قده )، مع ثلّة من الطلبة اللبنانيين كما كان يقدّم لي بعض المساعدات من الحقوق الشرعيّة إسوة بوالده آية الله المُقدّس الشيخ علي الفقيه ( قده )، كما كانت والدة شيخنا الفقيه ( قده )، وهي سيّدة علوية جليلة من آل المرتضى ـ «تخصّني وتخصُّ زوجتي السابقة وطفلي المريض علي بالدعاء ».
ج ـ أيوب العلماء
تكلّمت في كتاب «علماء ثغور الإسلام » عن آية الله المُقدّس السيّد عبد المحسن فضل الله ( قده )، واصفاً إياه في خاتمة الحديث عنه وعن جهاده وصبره أيام الإجتياح الإسرائيليّ للبنان وعن آلامه وآلام أُسرته الكريمة وطلابه إلى أن قلت : [ « وبعد فلا غرو أن يُصحُّ في وصفه أنّه كان من علماء جبل عاملة، كما كان النبيُّ أيوب، في الأنبياء صبراً واحتساباً وتقرباً إلى الله تعالى ] ».
وشيخنا الأستاذ الشيخ المفيد ( قده )، عاش في العراق منذ مغادرة عمه العلاّمة المرجع آية الله الشيخ محمد تقي الفقيه ( قده ) للنّجف الأشرف سنة 1962م. وأثناء إدارته واشرافه على المدرسة العامليّة اللبنانيّة وقيامه بالتبليغ والإرشاد الدينيّ في قلعة سكر في سنة 1963م.
ولغاية سنة 1990م. حياةً شابهت حياة ايوب في الصبر، وكذلك معاناته الطويلة مع الطلبة الفضلاء من أرحامه وفي المدرسة اللبنانيّة الآنفة تجاه تجاوزات الحزب الشيوعيّ العراقي ومن ثُمّ تجاوزات حزب البعث العراقي على حقوق الإنسان وعلى حُرمات ومُقدّسات النّجف الأشرف والعتبات المُقدّسة في العراق. كما كانت حياته في جبل عامل منذ سنة 1990م. ولغاية وفاته في أوائل شهر نيسان 2016م. أياماً أخرى من الإيمان والتقوى والصبر والإنقطاع إلى الله تعالى، كأيوب.
كما تحملَّ ضرائب أخرى من الصبر جزاءً لإبتعاده عن السياسة اللبنانيّة والصراعات الحزبيّة في جبل عامل حتى كادت تشابه أيامه العامليّة أيامه السابقة اللّهم إلا في بعض الأيام البيض وليالي القدر التي مرّت على جبل عامل ببركات وجوده ووجود الثلة المباركة من أقرانه وطلابه وببركات المقاومة الإسلاميّة في وجه العدو الإسرائيليّ الغاشم.
وقد ضاعف ذلك خبر استشهاد ولديه الفاضلين الشيخ هادي والشيخ مهدي وصهره الشيخ صادق محمد رضا الفقيه في الإنتفاضة الشعبانيّة في العراق التي حدثت في شهر آذار سنة 1991م. الموافق لشهر شعبان سنة 1411هـ.
وكذلك إستشهاد نسيبه العلاّمة السيّد عبد اللطيف الأمين على يدي العدو الصهيوني.
وكذلك وفاة عمه وأستاذه آية الله العظمى الشيخ محمد تقي الفقيه ( قده )، ووفاة ابن عمه العلاّمة الشيخ محمد رضا الفقيه ( قده ). ومعاناته الطويلة مع المرض في أواخر حياته. وفجيعته الأخيرة بوفاة ولده ابراهيم في شهر آذار 2016م.
د ـ آثاره العلميّة
لقد ترك شيخنا الأستاذ خلال أكثر من خمسين عاماً من البحث والتحقيق والتدريس آثاراً علميّة وفكريّة كان أهمها :
أولاً: تربية أجيال من طلابه كانوا من أهل الفضيلة والعلم في النّجف الأشرف وفي جبل عامل من اللبنانيين والعراقيين والسعوديين والإيرانيين والسوريين وغيرهم…
ثانياً: إهتمامه بالمدرسة العامليّة اللبنانيّة لطلبة العلوم الدينيّة في النّجف الأشرف وتعاونه مع آية الله العظمى السيّد علي الحسينيّ السيستاني ( دام ظله )، لترميمها وزيادة البناء عليها وادارتها والإشراف عليها.
ثالثاً: إهتمامه في تأسيس وبناء حوزة علميّة حديثة في بلدته حاريص على غرار حوزة النّجف الأشرف تحت إسم جامعة النّجف للعلوم الدينيّة وكان مركزها في بادئ الأمر مدينة صور. ومع تزايد عدد طلابها إنتقل بها إلى بناء مُستقل في بلدته حاريص. وقد أعادت هذه الحوزة الحديثة بأساتذتها وطلابها ورئيسها إلى جبل عامل أيامه العلميّة الغابرة. كما كان يصدر عنها مجلة علميّة دوريّة جامعة تعتبر مصدراً مُحترماً لماضي وحاضر المدارس الدينيّة في جبل عامل.
رابعاً: إهتمامه بالشعائر الحسينيّة في منطقة جنوب الليطاني حيث كان يقيم مأتمين كبيرين في أيام عاشوراء من شهر مُحرّم الحرام كل عام في منطقة الحوش ـ صور. وفي بلدته حاريص.
خامساً : كما له كتابات فقهيّة وأصوليّة وإسلاميّة تعتبر مرجعاً للعلماء والباحثين كان أهمها :
1 ـ كتاب المواريث والوصايا
2 ـ كتاب الطلاق
3 ـ المكاسب من كتاب التجارة
4 ـ كتاب النكاح
5 ـ الخيارات من كتاب التجارة
6 ـ العقل في أصول الدين
7 ـ مباحث القبلة والستر والساتر
8 ـ قواعد فقهيّة
9 ـ ولاية الفقيه في مذهب أهل البيت
وغيرها من الكتابات والبحوث والتقريرات.
هـ ـ وفاته
توفي ( قده ) بعد صراع مع مرض عضال ألمَّ به، يوم الأحد 3 نيسان 2016م. الموافق 24 جمادى الثانية 1437هـ. حيث احتشدت جموع العلماء والمؤمنين لتوديعه في مأتمين في بلدته حاريص حيث صلّى على جثمانه كبير علماء جبل عامل آية الله السيّد محمد علي الأمين.
ثُمّ في بيروت في مسجد الإمام جعفر الصادق ـ شاتيلا حيث صلّى على جثمانه سيّدنا الأستاذ آية الله السيّد علي مكّي. ثُمّ نُقِلَّ جثمانه إلى كربلاء المُقدّسة حيث صلّى عليه في الحرم الحسينيّ معتمد المرجعيّة الرشيدة العلاّمة الشيخ عبد المهدي الكربلائيّ.
لينقل بعدها إلى مثواه الأخير في النّجف الأشرف حيث صلّى عليه سيّدنا الأستاذ المرجع الدينيّ الكبير السيّد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم ( دام ظله )، ليدفن في مقبرة وادي السلام بجوار مولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب. وأقيمت له عدّة فواتح في النّجف الأشرف وفي بيروت وفي حاريص وصور وفي بلاد الإغتراب.
وبعد فإنّ فَقْدَ النّجف الأشرف وجبل عامل ولبنان لشيخنا آية الله الشيخ الفقيه ( قده )، يَعدُّ خسارة كبرى للحوزات العلميّة ولمجالس البحث والتدريس والتحقيق والتصنيف. حيث فقدنا بغيابه وغياب من سبقه إلى جوار الله تعالى من علمائنا الأعلام عصراً ذهبياً للفقه والأصول في جبل عامل ولبنان، وطوداً من العلم والفضيلة والصبر والتقوى.
القاضي الدكتور الشيخ يوسف محمد عَمرو