كثير هو ما ينتظره اللبنانيون من العهد الجديد بقيادة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ورغم أنّ آمال الفئات والشرائح اللبنانية ليست متطابقة وكلٌّ يأمل من العهد الجديد ما يريحه أو يعوّل عليه، ورغم أنّ الواقعية تفرض الحذر في إطلاق العنان للآمال الكبيرة، خاصة أنّ رئيس الجمهورية لم يعُد هو مَن يُمسك بزمام السلطة التنفيذية بمقتضى دستور الطائف بعدما انتقلت إلى مجلس الوزراء الذي ينعقد بحضوره أو بغيابه، لكننا وفي مطلق الأحوال نجد أنّ هناك من الصلاحيات ما هو مستمرّ بيد الرئيس ويمكّنه من أن يحوّل الآمال والوعود الى حقيقة واقعة مستفيداً من ظروف مركبة معقدة مكّنته من الوصول الى سدة الرئاسة بعد معاناة وانتظار 26 عاماً حفلت بشتى ضروب الملاحقة والنفي والعزل والتهميش والكيدية، وصولاً الى مخالفة الدستور والقانون فقط من أجل إغاظة العماد عون رئيس التيار الوطني الحر يومها أو استفزازه أو الإساءة إليه.
ومن حيث التوقعات والأمور الممكنة على يد الرئيس، وفي واقعه الدستوري القائم حالياً، فإنّ اللبنانيين ينتظرون الانتقال بالسلطة في لبنان من «جماعة الأشخاص الحاكمة» الى «منظومة المؤسسات التي تحكم وتتعاون وفقاً للدستور والقانون» وهذا هو جوهر الإصلاح والتغيير الذي اتخذه العماد عون شعاراً لحركته السياسية منذ ما يقارب ثلاثة عقود. وهذا الأمر ليس عسيراً، ويكفي أن يعمل الرئيس بقَسَمه للمحافظة على الدستور ويطالب كلّ مؤسسة دستورية القيام بما عليها من واجبات والامتناع عن إهمال أو تخطّي النصوص الناظمة لعملها مع تفعيل مؤسسات الرقابة حتى ينتظم العمل في الدولة.
ففي القضاء مثلاً وهو الأساس الذي يعوّل عليه لانتظام العمل في الدولة وتأمين مصالح الناس القضاء بكلّ وجوهه العدلي والإداري والجزائي والدستوري يكفي أن يُفعَّل التفتيش القضائي ونحاسب الفاسدين، وفقاً لتقاريره وتُرفع يد السياسيين عنه حتى يتنفّس المواطن الصعداء. وهنا نشدّد على أهمية تفعيل المجلس الدستوري الذي عانى العماد عون شخصياً منه والانتقال به الى مؤسسة مستقلة فعلاً لا تخضع لضغط أحد ولا تسيّرها إلا مصلحة الدستور ومصلحة لبنان العليا من دون أن ننسى أنّ هذه المؤسسة هي درّة إصلاحات الطائف، ويجب أن تحفظ.
وفي الإدارة يكفي أن نختار للتفتيش المركزي مفتشين أكفياء يأتون إلى المنصب من غير طريق السياسيين، وهو أمر ممكن إن سلُمت النيات وسقطت مقولة «بدي حصتي»، المقولة الشهيرة التي يعتمدها سياسيّو لبنان وكأنّ الدولة ملك توارثوه عن آبائهم وأجدادهم، يكفي ان نختار الأكفياء للتفتيش ونطلق يدهم ونعمل بتقاريرهم حتى تنتظم الإدارة.
وفي الأمن وهو أمر صعب وسهل في الوقت نفسه إذ إنّ لدينا مؤسسات عسكرية وأمنية كفوءة، يكفي أن تُترك لتعمل ولا يتدخل سياسي بشأنها، وهي كفيلة بتأمين أفضل وجوه الأمن في البلاد، وفقاً لأصول وقواعد الأمن الحديث القائم على أساس منظومة الأمن الإقليمي المتماسك. وهذا يفرض المجاهرة والشجاعة في التنسيق مع سورية التي بدونها وبدون التنسيق معها لا يكون مجال للنجاح في الحرب الاستباقية والردعية ضدّ الإرهاب. وهو المفهوم الفذّ الذي أطلقه الرئيس في خطاب القسم ويعرف المختصون كيف يفسّرونه ويضعونه موضع التنفيذ.
ويبقى مصدر الإصلاح الرئيسي متمثلاً في قانون الانتخاب، حيث نرى أنّ لبنان اليوم أمام فرصة نادرة لصياغة قانون انتخاب عصري يحفظ صحة التمثيل الشعبي القائم على النسبية في الدائرة الواسعة الواحدة التي تشمل كلّ لبنان أو الدوائر الوسطى الثماني على أساس المحافظة، كما ينصّ الطائف. والعماد عون الذي قاد تياراً وطنياً إصلاحياً يعرف أنّ أساس الإصلاح وجوهره يكمنان في قانون الانتخاب الذي ينقل البلاد من دولة التوارث السياسي وحكم أمراء الطوائف الثابتين في مواقعهم حتى النفس الأخير إلى حكم الشعب والتمثيل الشعبي الخاضع للمحاسبة الشعبية كلّ أربع سنوات. وهنا وكما أطلق العماد على القصر الجمهوري اسم قصر أو بيت الشعب، فإنّ بإمكانه أن يعمل حتى يُرسي حكم الشعب عبر التمثيل الصحيح.
أما استراتيجياً، وفي الموقع الدولي والعلاقات الخارجية، فإننا لا يمكن أن نغفل لحظة واحدة عن حقيقة ثابتة لا يناقش فيها عاقل، وهي أنّ وصول العماد عون إلى سدة الرئاسة كان انتصاراً لمحور المقاومة الإقليمي الذي تمسّك عبر مكوّنه اللبناني حزب الله بالعماد عون منذ اللحظة الأولى مرشحاً وحيداً للرئاسة، مؤكداً بوضوح حاسم مقولة: «عون أو لا رئيس»، في مقابل الرفض المطلق لرئاسة عون من قبل قوى إقليمية مناهضة عبّرت عنها السعودية على لسان وزير خارجيتها السابق سعود الفيصل بقوله «عون حليف حزب الله ولن يكون حليف إيران رئيساً في لبنان». وكان صمود في المواجهة وصراع إرادات حتى دانت إرادة رافضي رئاسة عون لإرادة فارضي عون رئيساً. ومن هنا نفهم كيف انّ اول ثلاثة اتصالات تهنئة تلقاها الرئيس عون كانت على التوالي من السيد حسن نصرالله ثم الرئيس الإيراني الدكتور حسن روحاني ثم الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد، وإنّ أكبر باقة ورد على الإطلاق تسلّمها كانت من الرئيس الأسد أيضاً تعبيراً عن سرور محور المقاومة بنصره في لبنان.
هذا الانتصار يجب أن يُحفَظ في أصله، كما يجب ألا يشكل على الرئيس عبئاً، وأنّ المحافظة عليه واستثماره يستلزمان الحنكة والذكاء والمرونة من الجميع. وحسناً فعل الرئيس في خطاب القسم وفي استعمال الكلمات الهادئة التي لا تستفزّ أحداً في الإقليم، ولكنه وبذكاء لافت أكد تمسكه بما يهمّ محور المقاومة وما يعمل له، لجهة تأكيد مقاومة «إسرائيل» بشتى الوسائل، ومحاربة الإرهاب بكلّ الطرق استباقاً وردعاً، واحترام السيادة والاستقلال وقواعد القانون الدولي التي ترعى ذلك، ما يعني أنه لن ينزلق ولا ينتظرنّ منه أحد ان ينزلق الى القول من باحة قصر بعبدا «عاشت المملكة…»، كما فعل سواه، بل لن يكون على لسانه إلا عاش لبنان من غير تبعية لأحد، إنما بتنسيق كلي حيث يقتضي التنسيق مع مَن كان منتصراً بوصوله إلى الرئاسة من دون أن يعادي أحداً في الإقليم أو الخارج إلا العداء لـ «إسرائيل».
وباختصار نقول إنّ ما يريده المواطن اللبناني من العماد عون هو نفسه ما وعد به العماد عون طيلة 26 عاماً في بناء الدولة على أساس القانون والدستور وتطبيق نهج الإصلاح واجتثاث الفساد ومعالجة ما شكا منه في كتاب «الإبراء المستحيل» الذي وضعه ولا زال بين يديه، وبذلك يستطيع أن يوقف الهدر ويُعيد مال الدولة للدولة، ويُطلق عمل المؤسسات الدستورية والأمنية والإدارية والقضائية، وفي الموقع الاستراتيجي للبنان يكفيه التمسك بمواقفه المعلنة من العداء لـ «إسرائيل» وبصلابته اللافتة التي أظهرها في العام 2006 واستمرّ ممارساً حتى يؤكد انتصاره على الوجهَيْن الداخلي والخارجي على السواء ويحقق ما اختصره في خطاب القسم…
إنّ العماد عون الذي تميّز بقدرته على ربط النظرية بالواقع والمشهور بطول نفسه ومثابرته قادر على أن يصل في مدة ولايته إلى تحقيق كلّ ما حلم هو به وحلم اللبنانيون به، خاصة أنّ ظروفه أفضل من ظروف كلّ مَن سبقه الى الرئاسة خلال ربع قرن مضى، من حيث وضعه المحلي والإقليمي وانشغال العالم عنا وحاجة الآخر الى استقرارنا، فنرجو ألا تضيع الفرصة