بينما يكثر الحديث باضطرادٍ في هذه الأيّام عن أنّ حضور روسيا المتفاعل على مسرح السياسة الدوليّة يندرج في سياق خطّةٍ تستهدف استحضار أمجاد الزمن السوفييتيّ ووهجه وعنفوانه، خرج زعيم الحزب الشيوعيّ الروسيّ غينادي زيوغانوف أمام جماهيره نهار أمس الاثنين، أثناء الاحتفال بالذكرى السنويّة التاسعة والتسعين للثورة البلشفيّة التي قادها فلاديمير إيليتش أوليانوف (لينين) عام 1917، ليحرّك مشاعرهم القوميّة حتّى النخاع، وذلك عندما أعلن بصراحةٍ مطلقةٍ، ومن دون مواربةٍ.
أنّ مهمّة حزبه الأساسيّة في الوقت الحاليّ تتركّز على العمل من أجل “بعث الاتّحاد السوفييتيّ من جديد”، الأمر الذي سرعان ما خلّف وراءه على الفور الكثير من الأصداء الإيجابيّة المفعمةِ بالأمل في استعادة شيءٍ من عبق الماضي الذي لم يصبح بعيدًا جدًّا بعد، ولا سيّما أنّ أكثر من ستّين في المئة من المواطنين الروس، وبحسب استطلاعٍ للرأي العامّ المحلّيّ أُجري في شهر حزيران الماضي، كانوا قد أعربوا عن استعدادهم التامّ للتصويت لصالح بقاء الاتّحاد السوفييتيّ في أيّ استفتاءٍ يمكن أن يُجرى حول هذا الموضوع.
لا شكّ في أنّ هذه النسبة التي تعبِّر عن طموحات وتطلّعات غالبيّة أبناء الشعب الروسيّ سيُقدَّر لها أن ترتفع لتصل إلى درجةٍ قياسيّةٍ إذا ما تمّ إجراء الاستفتاء بالفعل، وخصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار أنّ ما تعهّد به زيوغانوف البارحة على صعيد بذل قصارى الجهد من أجل بناء الدولة السوفييتيّة التي تفكّكت عام 1991، يتناسق إلى حدّ الانصهار مع ما دأب الرئيس فلاديمير بوتين على ترديده بين الحين والآخر من مواقفَ قوميّةٍ بامتياز، ولا سيّما أنّه كان وصف انهيار الاتّحاد السوفييتيّ مرارًا بـ “أكبر كارثةٍ جيوسياسيّةٍ” شهدتها سنوات القرن العشرين، علاوةً على اعترافه مؤخّرًا بأنّ أفضل الأساليب التي كان يُفترض اتّباعها وقتذاك، تتمثّل في السير على طريق التغيير نحو الديمقراطيّة بشكلٍ يضمن عدم تفكّك الدولة وانهيارها، حسب ما صرّح به أثناء لقائه مع قادة الأحزاب السياسيّة الروسيّة في الثالث والعشرين من شهر أيلول الماضي.
وعلى رغم أنّ الرئيس بوتين ألقى خلال ذلك اللقاء مسؤوليّة انهيار الاتّحاد السوفييتيّ على عاتق الحزب الشيوعيّ الحاكم (1917 – 1991)، بما ينمّ عن رغبةٍ مبطّنةٍ لديه في تسجيلِ نقطةٍ لصالح “حزب روسيا الموحّدة” الذي يتزعّمه ضدّ الشيوعيّين الذين يشكّلون ثاني أكبر الأحزاب السياسيّة من حيث القاعدة الجماهيريّة والتمثيل البرلمانيّ في البلاد، فإنّ ما يعزّز الاعتقاد بأنّ نسبة الحنين إلى الحقبة السوفييتيّة لا بدّ وأن تكون قياسيّةً بامتيازٍ في الوقت الحاليّ، يعود في الأصل إلى أنّ الحزبيْن يُكملان بعضهما البعض، سياسيًّا وعقائديًّا ووجدانيًّا، بغضّ النظر عن تنافسهما المشروع في المعارك الانتخابيّة النيابيّة، الأمر الذي يتأكّد بوضوحٍ عندما أستحضرُ، على المستوى الشخصيّ، تفاصيل أوّل لقاءٍ جمعني مع “الرفيق زيوغانوف” في مكتبه داخل مجلس الـ “دوما” في وسط موسكو صيفَ عامِ 2001، أي بينما كان عودُ الرئيس بوتين لا يزال طريًّا في الحياة السياسيّة المحلّيّة، وخصوصًا عندما قال لي ما حرفيّته: “إنّنا في الحزب الشيوعيّ سنشكّل ظلًّا لفلاديمير بوتين، وقوّةَ دفعٍ له، طالما أنّ جهوده تسير في اتّجاه إعادة التوازن إلى مكيال العلاقات الدوليّة بين موسكو وواشنطن، وطالما أنّه سيعيد الاعتبار إلى الهويّة الروسيّة من جديد”.
يومها، أبرزتُ أمام زيوغانوف صورةً عن جواز سفرٍ سوفييتيٍّ كانت إحدى المواطنات الموسكوفيّات لا تزال تستخدمه في ترحالها بين مطارات العالم من أقصاه إلى أقصاه، حفاظًا على شرعيّته في مواجهة تفكّك الدولة السوفييتيّة، فقال لي إنّ جواز السفر السوفييتيّ لم يُسحَب من التداول يومًا طالما أنّ فترة صلاحيّته لا تزال سارية المفعول، مؤكّدًا أنّ العالم لا يزال يعترف بشرعيّته.
وإذا كان ما تقدّم كافيًا للتأكيد على أنّ الهويّة السوفييتيّة ما زالت حاضرةً لغاية يومنا الراهن في الوجدان الروسيّ حتّى النخاع، فإنّ مردّ ذلك يعود إلى أنّ العزف على الوتر العقيديّ، في يومنا الراهن، لا بدّ من أن يُطرب أكثر بكثيرٍ من العزف على وتر الغرائز المصلحيّة، حيث السياسة أصبحت فنّ الممكن، وحيث كاد الممكن أن يرمي العالم بأكمله في الجحيم.. وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل في العقيدة والنعيم!
جمال دملج